مقالات

عطوان : لماذا فشلت زيارة ماكرون ذات الطابع “الفهلوي” لبكين؟ وكيف تعمد الرئيس الصيني اهانته وتحجيمه بعدم التجاوب لاي من طلباته وأبرزها الابتعاد عن موسكو؟

عبد الباري عطوان فجر اليوم//

البيان المشترك الذي صدر في ختام الزيارة التاريخية التي قام بها ايمانويل ماكرون للصين واستغرقت ثلاثة أيام وانتهت امس الاحد، جاء ليس لتعزيز مكانة الصين الدولية فقط، وانما تأكيد ضعف الخصم الأوروبي، وفشل بحثه عن حلول ومخارج من ازمة الحرب الأوكرانية التي ورطته امريكا فيها، والبدء في الرحيل المتدرج من التبعية لها وبعد ما يقرب من 80 عاما.

البيان المذكور الذي صيغت عباراته بدقة، وبالكثير من العموميات الانشائية التقليدية ولم يتضمن أي كلمات تلبي طموحات الرئيس الفرنسي، خاصة العبارة “الذهبية”، أي ادانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، ودعوتها الى الانسحاب من شبه جريرة القرم والاقاليم الأربعة من دونباس التي ضمتها روسيا، وكرر المسؤولون الصينيون مرة أخرى تحميل حلف “الناتو” وامريكا مسؤولية الحرب الأوكرانية، باستفزازاتهم لروسيا، وانتهاك معاهدة مينسك عام 2013 بتحريض أوكرانيا على الصدام مع جارها الروسي، وإلغاء حيادها بالانضمام لحلف الناتو.

ماكرون ذهب الى بكين، وبصحبته السيدة اورسولا فون دير لاين رئيسة الاتحاد الأوروبي، مؤمنا بأن الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على احداث تأثير فوري وجذري في الحرب الأوكرانية، وحاول طوال فترة الزيارة اقناع القيادة الصينية بالقيام بدور الوسيط المحايد لانهاء الحرب، والضغط على “حليفه” الرئيس فلاديمير بوتين بتقديم تنازلات تغري الغرب بإنهاء الحرب ووقف اطلاق النار، وعدم دعم الصين للمجهود العسكري الروسي، وتزويدها بأسلحة وذخائر متطورة تحسم النتائج لصالحها، ولكن الرئيس الصيني اذكى من ان يتجاوب مع هذه الطلبات، ومن رئيس فرنسي مأزوم داخليا، وخفيف الوزن خارجيا.

جميع هذه المحاولات “الماكرونية” لم تنجح في تحقيق أهدافها، بل جاءت النتائج عكسية تماما، فما حدث ان الرئيس الصيني تشي جين بينغ تعمد اذلال ضيفه الفرنسي ومرافقته الأوروبية بطريقة “مؤدبة”، وتكرار الإهانة نفسها التي تعرض لها اثناء زيارته الأخيرة لموسكو، عندما استقبلهما على طاولة كبيرة جدا جلس على رأسها، وعلى مسافة بعيدة من ضيفيه الأوروبيين، أي الرئيس ماكرون والسيدة اورسولا فون دي لاين.

الرئيس الصيني لا يمكن ان يثق بالغرب، ويدرك جيدا ان القادة الأوروبيين، وعلى رأسهم ماكرون مجرد “دمى” في يد الولايات المتحدة، والهدف الرئيسي الذي يتطلعون اليه من خلال زياراتهم “المنافقة”، هو تنفيذ وصية هنري كيسنجر بإبعاد بلاده عن روسيا، والانفراد بها لاحقا.

فكيف يثق بالقادة الأوروبيين وهم الذين يقفون في الخندق الأمريكي الداعم لانفصال تايوان واستقلالها، ويلتزمون بشكل كامل بالعقوبات الاقتصادية الامريكية على الصين وشركاتها الكبرى مثل “هواوي” و”تيك توك”، رغم ان حجم التبادل التجاري بين الصين وفرنسا يبلغ 110 مليار دولار سنويا، فالذيلية لامريكا تتقدم على مصالح فرنسا وشعبها، ولهذا تتفاقم الاحتجاجات في شوارع باريس.

لم يكن من قبيل الصدفة ان تأتي زيارة ماكرون لبكين، وفي وقت يتصاعد فيه التوتر بين الصين وامريكا الى قمة ذروته، وتنخرط فيه الأولى (الصين) في مناورات عسكرية تحاكي حصار تايوان، وقصفها بالمسيرّات والصواريخ الدقيقة، بمشاركة حاملات طائرات وغواصات نووية، كرد على الاستفزازات الامريكية، واستقبال كيفن مكارثي رئيس مجلس النواب الجمهوري للسيدة تساي اينغ وين رئيس تايوان، واجتماعه المبالغ فيه معها في لوس إنجيليس في تزامن مع زيارة ماكرون.

الصين لا يمكن ان تكون دولة محايدة في الحرب الأوكرانية، وستقف دائما مع الحليف الروسي الذي تربطه بها منظومتان عالميتان هما “البريكس” و”شنغهاي”، والتزامات استراتيجية بإنهاء هيمنة أمريكا والدولار والقطب الواحد على مقدرات العالم، وقد عبر الرئيس الصيني بشكل مقنع عن هذه الحقيقة عندما وصف علاقاته مع روسيا اثناء زيارته لموسكو بـ”الصداقة الأبدية”، ورد عليه مضيفه الرئيس بوتين بأنهما “يقفان كتفا الى كتف” في مواجهة الجهود الامريكية المتصاعدة لردع روسيا والصين، وتدميرهما اقتصاديا وعسكريا.

ما يجعلنا نقول ان زيارة الرئيس ماكرون أعطت نتائج عكسية هو تصريحاته التي ادلى بها قبلها وبعدها وقال فيها “ان أوروبا يجب ان تستقل عن الولايات المتحدة، وتنهي التبعية لها، وان تتجنب المواجهة مع الصين، وتقلل اعتمادها على الدولار، فمعظم المؤشرات، ابتداء من فضيحة وثائق الحرب الأوكرانية الامريكية، والخسائر البشرية والارضية الأوكرانية الضخمة في ياخموت وجبهات ميدانية أخرى، وفشل العقوبات الاقتصادية، وتضخم الخزانة الروسية من عوائد النفط التي ارتفعت بشكل متسارع بعد تخفيض الإنتاج، تؤكد تغيير موازين القوى لصالح الروس.
***
اذا أراد أي محلل فهم ما يدور في رأس الرئيس الصيني وحكومته، ما عليه الا ان يتابع تصريحات الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ اون، وتحدياته “الجريئة” للولايات المتحدة، ومستعمرتها الكورية الجنوبية، فهذا الرجل يقول ويفعل، ولا يعرف شيء اسمه الخوف من أمريكا، والا لما اذل دونالد ترامب مرتين، وجرجره الى قمتين في سنغافورة وهانوي دون ان يقدم له أي تنازل، ويعود الى واشنطن وذبه بين رجليه.

الرئيس كيم الذي أجرى عدة تجارب نووية وصاروخية أسرع من الصوت وعابرة للقارات، ويرفض منذ اربعة ايام الرد على مكالمات نظيره الجنوبي عبر الخط الساخن لتخفيف التوتر المتصاعد بين البلدين، هو “التيرموميتر” الذي يقيس حقيقة الموقف الصيني، ويقرأ استعداداته للحرب او السلام، وبما يؤشر الى ان الرئيس الصيني لن يسمح باستقلال تايوان، ولن يتردد في دعم روسيا، وعلى درجة عالية من الاستعداد لخوض الحرب، تقليدية او نووية، كرد على التدخلات الامريكية الاستفزازية في عقر داره.

المعادلة الاستراتيجية الأبرز التي تلخص التوتر العالمي المتصاعد تقول “كلما زاد الضغط الأمريكي واذرعه على الصين، كلما ازداد تقاربها مع روسيا” وهذا يعني ان عالم القطب الواحد، وهيمنة الدولار، بل والتحالف الأوروبي الأمريكي، كلها تقترب من نهايتها لمصلحة نشوء نظام عالمي متعدد الأقطاب، وسقوط نظريات “الداهية” هنري كيسنجر ونظامه العالمي القديم.. والأيام بيننا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى