من وصمة عار إلى فضاء سردي.. كيف تحوّل تمثيل السرطان في الأدب؟

من وصمة عار إلى فضاء سردي.. كيف تحوّل تمثيل السرطان في الأدب؟

صحية وتحقيقات #فجر_اليوم //

بقلم سلوى دبوق
طالما حضر المرض كتجربة إنسانية عميقة في تاريخ الثقافة البشرية. إلا أنّ مرض السرطان تحديداً، استأثر بمكانة فريدة ومعقدة في المخيال الجمعي عبر العصور. فمنذ الأزمنة القديمة وحتى القرن الــ 21، تذبذب السرطان في تمثلاته الاجتماعية والأخلاقية، متأرجحاً بين اعتباره “لعنة” غامضة، ووصمة “عار” اجتماعي، وموتاً محتوماً لا سبيل لإنكاره، قبل أن يتحول تدريجياً إلى فضاء سردي وفني خصب يعيد إنتاج معنى الألم الإنساني، وتجليات المقاومة والصمود في وجهه.

هكذا أولت الأدبيات النقدية والكتابات التأملية هذا التحول التاريخي اهتماماً بالغاً وعميقاً. ويُعدُّ كتاب “المرض كاستعارة” (Illness as Metaphor) لسوزان سونتاغ (1933 – 2004)، الذي نُشر عام 1978، مرجعاً أساسياً في هذا السياق. فقد فكّكت سونتاغ الكيفية التي بني بها المرض ثقافياً وحُمّل بدلالات مُدّمرة ومُعيقة للفهم الحقيقي لتجربة المريض.

وقد ساهم تحليل الأميركية سونتاغ في فهم كيف كانت هذه التصوّرات الرمزية جزءاً من الصورة النمطية السلبية للسرطان التي سعى الأدب لاحقاً إلى تفكيكها. لم تقتصر رؤية سونتاغ على تحليل الاستعارات اللغوية فحسب، بل امتدت لتشمل الكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية لهذه الدلالات وتأثيرها السلبي على نظرة المجتمع والمرضى أنفسهم إلى السرطان.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن تتبُّع تطور تمثيلات السرطان عبر مختلف أشكال الفنون والآداب، من النصوص الدينية القديمة التي ربطته بالعقاب الإلهي، مروراً بالأعمال الأدبية الكلاسيكية التي صورته كقوة مدمرة لا تقاوم، وصولاً إلى الأعمال المعاصرة التي تسعى لتقديم صور أكثر دقة وإنسانية لتجربة التعايش مع المرض، بما في ذلك التحدّيات الجسدية والنفسية، وقصص الأمل والانتصار، وأهمية الدعم الاجتماعي والطبي. هذا التحوّل يعكس تطور الفهم العلمي للمرض، وتغيُّر النظرة المجتمعية تجاهه، وظهور أصوات المرضى أنفسهم في الساحة الثقافية.

السرطان: الجذور التاريخية والوصم الثقافي

لتتبُّع جذور هذا التحوّل في تمثيلات السرطان، من الضروري العودة إلى السياقات التاريخية والثقافية التي شكّلت النظرة الأولية لهذا المرض. قبل القرن الــ 19، كان يُنظر إلى السرطان في العديد من الثقافات على أنه لعنة إلهية أو نتيجة للخطيئة، حيث كان يُعتقد أن الأمراض بشكل عام هي عقاب من الآلهة أو قوى خارقة.

وفي الغرب، كما يشير جيمس ستيوارت أولسون في كتابه “تاريخ السرطان” (1989)، ربطت التقاليد الطبية المرض بالفساد الأخلاقي، خاصةً لدى النساء، حيث كان يُنظر إلى سرطان الثدي والرحم على أنه دليل على “الرغبات غير المشروعة”. هذا الربط لم يكن مجرد اعتقاد طبي، بل كان يعكس النظرة الاجتماعية والأخلاقية السائدة في ذلك الوقت. وقد فرضت المجتمعات طوقاً من الصمت حول المرض، مما زاد من معاناة المرضى وعزلهم.

توثق باربرا إهرنريتش في كتابها “جانب مشرق” (2009) أن الإعلام الأميركي حتى خمسينيات القرن الماضي كان يتحاشى ذكر كلمة “سرطان الرئة”، مفضلاً عبارات مبهمة مثل “أمراض الصدر”، مما يعكس الخوف والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض.

لماذا تأخر ظهور السرطان في الأدب؟

ظلَّ السرطان غائباً عن الأدب حتى منتصف القرن الــ 19، على الرغم من أن المرض كان معروفاً منذ القدم، حيث قدّم أبقراط، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وصفاً تشخيصياً له. وتشير المخطوطات المصرية القديمة، مثل بردية إدوين سميث التي يعود تاريخها إلى نحو 1600 قبل الميلاد، إلى وجود أورام وعلاجات محتملة لها. وهذا يعني أن السرطان كان معروفاً منذ آلاف السنين. وقد اكتشف علماء بريطانيون هيكلاً عظمياً لشاب عاش قبل 3 آلاف عام في العصور المصرية القديمة تبيّن أنه كان مصاب بمرض السرطان وأنّ المرض قد تملك من جسمه وانتشر في كل مكان. كيف يمكن إذن تفسير هذا الفراغ التاريخي الذي امتد 23 قرناً؟

لا يوجد جواب قاطع هنا، لكن يمكننا طرح بعض الفرضيات. ففي المجتمعات التي يطغى فيها شأن الجماعة على الفرد، لا يتجسد المرض إلا عندما يتحوّل إلى وباء يهدد الكيان المجتمعي بأكمله، قبل أن يمس الأفراد. على سبيل المثال، حضر الطاعون، الذي أرعب الغرب حتى القرن الــ 18(كما في وباء مرسيليا عام 1720)، بقوة في الأدب العالمي، من مسرحية “أوديب ملكاً” لسوفوكليس، الذي عاصر أبقراط، مروراً بحكاية “حيوانات مريضة بالطاعون” للافونتين، وصولاً إلى رواية “الطاعون” للفرنسي ألبير كامو. هذه الأمراض، كالجدري والكوليرا والتيفوس والزهري، تندرج تحت مفهوم “الأمراض المعدية”، أي تلك التي تصيب الجموع وتُهدد النسيج الاجتماعي. أما السرطان، فعلى الرغم من انتشاره الواسع، بقي مرضاً فردياً غامضاً، لا يكاد يخترق حاجز الخصوصية ليصبح تهديداً جماعياً.

السلّ يهيمن على المشهد الأدبي

في حين بقي السرطان حبيس الظل في العالم الأدبي لفترة طويلة، تصدرت أمراض أخرى، مثل السل، المشهد الدرامي الإنساني في القرن الــ 19 وحتى منتصف القرن العشرين، تاركة بصمات واضحة في العديد من الأعمال الخالدة. فمن روائع مثل “سيدة الكاميليا” لألكسندر دوماس الابن، و”الجبل السحري” للألماني توماس مان، إلى شخصية “فانتين” المأساوية في رواية “البؤساء” للفرنسي فيكتور هوغو، و”مشاهد من حياة البوهيميين” لهنري مورجيه، ارتبط السلّ بصورة المرض “الرومانسي” – قاتل لكنه فاتن بجماله الخادع.

ويرى المؤرخ باتريس بينيل أن هيمنة السلّ تعود إلى ارتباطه بضحايا من الشباب، بينما بقي السرطان أسير الصورة النمطية كمرض يصيب كبار السن. إضافة إلى ذلك، لم يُقدِّم السرطان، على عكس أمراض أخرى كالزهري أو الجنون، مادة درامية لانتقاد المجتمع أو تسليط الضوء على “انحرافات” الطبقات المهمشة.

الصورة المشوهة للسرطان في بواكير حضوره الأدبي والسينمائي

عندما اقتحم السرطان أخيراً عوالم الأدب والسينما كشخصية محورية، ظهر في الغالب بصورة نمطية ومشوهة، بعيدة كل البعد عن تعقيدات الواقع وتعدد جوانبه. وقد لفت انتباه النقاد بشكل خاص ذلك الغياب شبه التام لقصص النجاة والتعافي من هذا المرض. حتى فيلم “إعلان حرب” (La guerre est déclarée) للمخرجة فاليري دونزلي عام 2012، والذي نال 6 جوائز تقديراً لتصويره المؤثر لكفاح زوجين لإنقاذ طفلهما من ورم دماغي خبيث، لم يستطع أن يكسر هذه القاعدة الراسخة: الأعمال الأدبية والسينمائية التي تنتهي بشفاء تام لا تزال نادرة وقليلة للغاية.

ويمكن تفسير هذا التناقض الصارخ مع التقدُّم الهائل الذي شهده الطب الحديث في علاجات السرطان بعاملين رئيسيين. أولهما ذو طبيعة تاريخية، حيث ظلت حالات الشفاء من السرطان نادرة نسبياً حتى منتصف القرن العشرين، وهو ما رسّخ نظرة تشاؤمية وسوداوية تجاه المرض في المخيال الثقافي والأعمال الفكرية.

أما العامل الثاني، وهو الأكثر عمقاً وتأثيراً على السرد، فيرتبط بجماليات الموت في الحبكة الدرامية. إذ غالباً ما يُنظر إلى الموت في سياق درامي على أنه نهاية أكثر تأثيراً وإثارة للعواطف، تاركاً بصمة أقوى لدى المتلقي. فهل يمكن تصور نهاية بديلة للرواية الكلاسيكية “قصة حب” (Love Story) لإيريش سيغال عام 1970، وفيلمها المقتبس الذي أخرجه آرثر هيلر في العام نفسه، حيث تنجو “جينيفر” من سرطان الدم وتعيش حياة هادئة مع زوجها “أوليفر” كأستاذة للموسيقى في إحدى جامعات ماساتشوستس؟

يبدو الأمر أشبه بتخيل عودة “مارغريت غوتييه”، بطلة رواية “غادة الكاميليا”، من الموت لتحيا حياة الترف والثراء مرة أخرى!

لحسن الحظ شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحولاً ملحوظاً في تصوير السرطان في الأدب، حيث بدأت تظهر أعمال تكسر هذه التابوهات وتُقدِّم رؤى أكثر واقعية وتنوعاً. وتُعد رواية “جناح السرطان” للروسي ألكسندر سولجنيتسن (1968) علامة فارقة في هذا التحول، حيث استخدم الكاتب، المستشفى السوفياتي، كرمز للنظام القمعي، وابتكر شخصيات تتعامل مع المرض في سياق سياسي واجتماعي أوسع.

لاحقاً، في العام 1991، وثّق الكاتب فيليب روث في روايته “Patrimony” تجربة والده مع المرض، كاشفاً عن الصراع الوجودي العميق بين الحياة والموت الذي يواجهه المرضى وأسرهم.

أما في الأدب المعاصر، فبرز اتجاه متزايد نحو كتابة السيَّر الذاتية لمصابين بالسرطان وشهادات لأطباء عايشوا المرض عن كثب. من الأمثلة البارزة على ذلك كتاب “When Breath Becomes Air” عام 2016 لبول كالانيتي، الطبيب الذي أصيب بسرطان الرئة، والذي استعرض تجربته المؤثرة في سياق فلسفي ووجودي عميق.

مرض السرطان في الأدب العربي: تحوُّل السرد من الصمت إلى الصرخة

الرئيسية
سلوى دبوق
ثقافة وفنون
تحقيقات
من وصمة عار إلى فضاء سردي.. كيف تحوّل تمثيل السرطان في الأدب؟
من وصمة عار إلى فضاء سردي.. كيف تحوّل تمثيل السرطان في الأدب؟
كان “لعنة” ووصمة “عار” على المصابين به إلى أن تحولوا مع الوقت إلى أبطال. كيف تحوّل تمثيل مرض السرطان في الأدب؟

سلوى دبوق
سلوى دبوق
المصدر: الميادين نت
اليوم 13:09
طالما حضر المرض كتجربة إنسانية عميقة في تاريخ الثقافة البشرية. إلا أنّ مرض السرطان تحديداً، استأثر بمكانة فريدة ومعقدة في المخيال الجمعي عبر العصور. فمنذ الأزمنة القديمة وحتى القرن الــ 21، تذبذب السرطان في تمثلاته الاجتماعية والأخلاقية، متأرجحاً بين اعتباره “لعنة” غامضة، ووصمة “عار” اجتماعي، وموتاً محتوماً لا سبيل لإنكاره، قبل أن يتحول تدريجياً إلى فضاء سردي وفني خصب يعيد إنتاج معنى الألم الإنساني، وتجليات المقاومة والصمود في وجهه.

هكذا أولت الأدبيات النقدية والكتابات التأملية هذا التحول التاريخي اهتماماً بالغاً وعميقاً. ويُعدُّ كتاب “المرض كاستعارة” (Illness as Metaphor) لسوزان سونتاغ (1933 – 2004)، الذي نُشر عام 1978، مرجعاً أساسياً في هذا السياق. فقد فكّكت سونتاغ الكيفية التي بني بها المرض ثقافياً وحُمّل بدلالات مُدّمرة ومُعيقة للفهم الحقيقي لتجربة المريض.

وقد ساهم تحليل الأميركية سونتاغ في فهم كيف كانت هذه التصوّرات الرمزية جزءاً من الصورة النمطية السلبية للسرطان التي سعى الأدب لاحقاً إلى تفكيكها. لم تقتصر رؤية سونتاغ على تحليل الاستعارات اللغوية فحسب، بل امتدت لتشمل الكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية لهذه الدلالات وتأثيرها السلبي على نظرة المجتمع والمرضى أنفسهم إلى السرطان.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن تتبُّع تطور تمثيلات السرطان عبر مختلف أشكال الفنون والآداب، من النصوص الدينية القديمة التي ربطته بالعقاب الإلهي، مروراً بالأعمال الأدبية الكلاسيكية التي صورته كقوة مدمرة لا تقاوم، وصولاً إلى الأعمال المعاصرة التي تسعى لتقديم صور أكثر دقة وإنسانية لتجربة التعايش مع المرض، بما في ذلك التحدّيات الجسدية والنفسية، وقصص الأمل والانتصار، وأهمية الدعم الاجتماعي والطبي. هذا التحوّل يعكس تطور الفهم العلمي للمرض، وتغيُّر النظرة المجتمعية تجاهه، وظهور أصوات المرضى أنفسهم في الساحة الثقافية.

السرطان: الجذور التاريخية والوصم الثقافي
لتتبُّع جذور هذا التحوّل في تمثيلات السرطان، من الضروري العودة إلى السياقات التاريخية والثقافية التي شكّلت النظرة الأولية لهذا المرض. قبل القرن الــ 19، كان يُنظر إلى السرطان في العديد من الثقافات على أنه لعنة إلهية أو نتيجة للخطيئة، حيث كان يُعتقد أن الأمراض بشكل عام هي عقاب من الآلهة أو قوى خارقة.

وفي الغرب، كما يشير جيمس ستيوارت أولسون في كتابه “تاريخ السرطان” (1989)، ربطت التقاليد الطبية المرض بالفساد الأخلاقي، خاصةً لدى النساء، حيث كان يُنظر إلى سرطان الثدي والرحم على أنه دليل على “الرغبات غير المشروعة”. هذا الربط لم يكن مجرد اعتقاد طبي، بل كان يعكس النظرة الاجتماعية والأخلاقية السائدة في ذلك الوقت. وقد فرضت المجتمعات طوقاً من الصمت حول المرض، مما زاد من معاناة المرضى وعزلهم.

توثق باربرا إهرنريتش في كتابها “جانب مشرق” (2009) أن الإعلام الأميركي حتى خمسينيات القرن الماضي كان يتحاشى ذكر كلمة “سرطان الرئة”، مفضلاً عبارات مبهمة مثل “أمراض الصدر”، مما يعكس الخوف والوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض.

لماذا تأخر ظهور السرطان في الأدب؟
ظلَّ السرطان غائباً عن الأدب حتى منتصف القرن الــ 19، على الرغم من أن المرض كان معروفاً منذ القدم، حيث قدّم أبقراط، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وصفاً تشخيصياً له. وتشير المخطوطات المصرية القديمة، مثل بردية إدوين سميث التي يعود تاريخها إلى نحو 1600 قبل الميلاد، إلى وجود أورام وعلاجات محتملة لها. وهذا يعني أن السرطان كان معروفاً منذ آلاف السنين. وقد اكتشف علماء بريطانيون هيكلاً عظمياً لشاب عاش قبل 3 آلاف عام في العصور المصرية القديمة تبيّن أنه كان مصاب بمرض السرطان وأنّ المرض قد تملك من جسمه وانتشر في كل مكان. كيف يمكن إذن تفسير هذا الفراغ التاريخي الذي امتد 23 قرناً؟

لا يوجد جواب قاطع هنا، لكن يمكننا طرح بعض الفرضيات. ففي المجتمعات التي يطغى فيها شأن الجماعة على الفرد، لا يتجسد المرض إلا عندما يتحوّل إلى وباء يهدد الكيان المجتمعي بأكمله، قبل أن يمس الأفراد. على سبيل المثال، حضر الطاعون، الذي أرعب الغرب حتى القرن الــ 18(كما في وباء مرسيليا عام 1720)، بقوة في الأدب العالمي، من مسرحية “أوديب ملكاً” لسوفوكليس، الذي عاصر أبقراط، مروراً بحكاية “حيوانات مريضة بالطاعون” للافونتين، وصولاً إلى رواية “الطاعون” للفرنسي ألبير كامو. هذه الأمراض، كالجدري والكوليرا والتيفوس والزهري، تندرج تحت مفهوم “الأمراض المعدية”، أي تلك التي تصيب الجموع وتُهدد النسيج الاجتماعي. أما السرطان، فعلى الرغم من انتشاره الواسع، بقي مرضاً فردياً غامضاً، لا يكاد يخترق حاجز الخصوصية ليصبح تهديداً جماعياً.

السلّ يهيمن على المشهد الأدبي
في حين بقي السرطان حبيس الظل في العالم الأدبي لفترة طويلة، تصدرت أمراض أخرى، مثل السل، المشهد الدرامي الإنساني في القرن الــ 19 وحتى منتصف القرن العشرين، تاركة بصمات واضحة في العديد من الأعمال الخالدة. فمن روائع مثل “سيدة الكاميليا” لألكسندر دوماس الابن، و”الجبل السحري” للألماني توماس مان، إلى شخصية “فانتين” المأساوية في رواية “البؤساء” للفرنسي فيكتور هوغو، و”مشاهد من حياة البوهيميين” لهنري مورجيه، ارتبط السلّ بصورة المرض “الرومانسي” – قاتل لكنه فاتن بجماله الخادع.

ويرى المؤرخ باتريس بينيل أن هيمنة السلّ تعود إلى ارتباطه بضحايا من الشباب، بينما بقي السرطان أسير الصورة النمطية كمرض يصيب كبار السن. إضافة إلى ذلك، لم يُقدِّم السرطان، على عكس أمراض أخرى كالزهري أو الجنون، مادة درامية لانتقاد المجتمع أو تسليط الضوء على “انحرافات” الطبقات المهمشة.

الصورة المشوهة للسرطان في بواكير حضوره الأدبي والسينمائي
عندما اقتحم السرطان أخيراً عوالم الأدب والسينما كشخصية محورية، ظهر في الغالب بصورة نمطية ومشوهة، بعيدة كل البعد عن تعقيدات الواقع وتعدد جوانبه. وقد لفت انتباه النقاد بشكل خاص ذلك الغياب شبه التام لقصص النجاة والتعافي من هذا المرض. حتى فيلم “إعلان حرب” (La guerre est déclarée) للمخرجة فاليري دونزلي عام 2012، والذي نال 6 جوائز تقديراً لتصويره المؤثر لكفاح زوجين لإنقاذ طفلهما من ورم دماغي خبيث، لم يستطع أن يكسر هذه القاعدة الراسخة: الأعمال الأدبية والسينمائية التي تنتهي بشفاء تام لا تزال نادرة وقليلة للغاية.

ويمكن تفسير هذا التناقض الصارخ مع التقدُّم الهائل الذي شهده الطب الحديث في علاجات السرطان بعاملين رئيسيين. أولهما ذو طبيعة تاريخية، حيث ظلت حالات الشفاء من السرطان نادرة نسبياً حتى منتصف القرن العشرين، وهو ما رسّخ نظرة تشاؤمية وسوداوية تجاه المرض في المخيال الثقافي والأعمال الفكرية.

أما العامل الثاني، وهو الأكثر عمقاً وتأثيراً على السرد، فيرتبط بجماليات الموت في الحبكة الدرامية. إذ غالباً ما يُنظر إلى الموت في سياق درامي على أنه نهاية أكثر تأثيراً وإثارة للعواطف، تاركاً بصمة أقوى لدى المتلقي. فهل يمكن تصور نهاية بديلة للرواية الكلاسيكية “قصة حب” (Love Story) لإيريش سيغال عام 1970، وفيلمها المقتبس الذي أخرجه آرثر هيلر في العام نفسه، حيث تنجو “جينيفر” من سرطان الدم وتعيش حياة هادئة مع زوجها “أوليفر” كأستاذة للموسيقى في إحدى جامعات ماساتشوستس؟

يبدو الأمر أشبه بتخيل عودة “مارغريت غوتييه”، بطلة رواية “غادة الكاميليا”، من الموت لتحيا حياة الترف والثراء مرة أخرى!

لحسن الحظ شهد النصف الثاني من القرن العشرين تحولاً ملحوظاً في تصوير السرطان في الأدب، حيث بدأت تظهر أعمال تكسر هذه التابوهات وتُقدِّم رؤى أكثر واقعية وتنوعاً. وتُعد رواية “جناح السرطان” للروسي ألكسندر سولجنيتسن (1968) علامة فارقة في هذا التحول، حيث استخدم الكاتب، المستشفى السوفياتي، كرمز للنظام القمعي، وابتكر شخصيات تتعامل مع المرض في سياق سياسي واجتماعي أوسع.

لاحقاً، في العام 1991، وثّق الكاتب فيليب روث في روايته “Patrimony” تجربة والده مع المرض، كاشفاً عن الصراع الوجودي العميق بين الحياة والموت الذي يواجهه المرضى وأسرهم.

أما في الأدب المعاصر، فبرز اتجاه متزايد نحو كتابة السيَّر الذاتية لمصابين بالسرطان وشهادات لأطباء عايشوا المرض عن كثب. من الأمثلة البارزة على ذلك كتاب “When Breath Becomes Air” عام 2016 لبول كالانيتي، الطبيب الذي أصيب بسرطان الرئة، والذي استعرض تجربته المؤثرة في سياق فلسفي ووجودي عميق.

مرض السرطان في الأدب العربي: تحوُّل السرد من الصمت إلى الصرخة
على غرار هذا التحول العالمي في تمثيل السرطان، شهد الأدب العربي المعاصر أيضاً تطوراً لافتاً في تعامله مع هذا المرض خلال العقود الأخيرة، حيث تجرأت أعمال روائية على كسر حاجز الصمت المجتمعي الذي طالما أحاط به. فتحوّل هذا المرض من كونه موضوعاً مُرعباً ومُتجنباً إلى قصة إنسانية تُناقش بجرأة وصراحة في مختلف جوانبها.

ففي قصة “بنت السلطان” للمصري إحسان عبد القدوس، برز مرض السرطان الذي يصيب العمة كعنصر محوري في الحبكة. فبدلاً من الاقتصار على تصوير المأساة، يتحول المرض إلى مُحفِّز لبطل الرواية الذي يُعلق آمالاً مادية على إرث العمة، سعياً لتحقيق حلمه بالزواج من محبوبته.

ثم بشكل أكثر عمقاً وخصوصية، خصّصت الكاتبة المصرية الراحلة، رضوى عاشور، مساحة واسعة في سيرتها الذاتية المؤثرة “أثقل من رضوى” لتفاصيل تجربتها الشخصية والمريرة مع مرض السرطان، مستعرضة لحظات ضعفها وألمها، إلى جانب تجليّات قوتها وصمودها في مواجهة المرض.

من جهة أخرى، تناول الكاتب سيد البحراوي في كتابه “في مديح الألم” رحلته الذاتية مع السرطان بمنظور فلسفي وجودي، مستكشفاً مفهوم الألم ليس كونه نقيضاً للسعادة فحسب، بل كجزء أصيل من التجربة الإنسانية. يسرد البحراوي يومياته خلال فترة المرض والعلاج، متطرقاً إلى مواضيع جوهرية كالحياة والموت، والعلاقات الإنسانية في أوقات الشدة، والتحديات الاجتماعية التي يفرضها المرض، مع التركيز بشكل خاص على قوة الإرادة وأهمية الرضا النفسي في مواجهة المحن.

كما رصدت الكاتبة، صفية منصور، الأحداث المؤلمة التي عاشتها في كتابها “رحلتي مع السرطان” (2018)، بدءاً من لحظة علمها بالنبأ الصعب، مروراً بمحاولاتها الحثيثة لمواجهة التبعات الجسدية والنفسية للمرض، ودخول المستشفى وخوض مراحل علاج طويلة، مسجلة يومياتها بصدق وعمق.

واستطاعت منصور أن تنقل للقراء إصرارها على عدم الاستسلام للمرض ومقاومته ببسالة، مؤكدة أنه رغم معرفة الجميع بالنهاية المحتملة، فإنها ما دامت على قيد الحياة ستظل تقاوم وتعيش وتنقل خبرتها الملهمة لكل مريض، مهما كان نوع مرضه.

هكذا تحوّل السرطان تدريجياً في الأدب والفن من “مرض لا يُسمى” إلى موضوع جمالي وفلسفي. ولم يعد المريض مجرد ضحية أو شاهد على الموت، بل صار شريكاً في السرد، يعيد رسم ملامح الوجود الإنساني. ولعل أفضل توصيف لهذا التحوّل ما قالته سوزان سونتاغ: “إن المرض ليس استعارة، لكن الطريقة التي نتحدث بها عنه هي التي تصنع الاستعارة”.

المراجع
– Sontag, Suzane. Illness as metaphor,1978.

– Olson, James Stuart. The History of Cancer: An Annotated Bibliography. Greenwood Press, 1989.

– Ehrenreich, Barbara. Bright-sided: How the Relentless Promotion of Positive Thinking Has Undermined America. Metropolitan Books, 2009.

– Solzhenitsyn, Alexander. Cancer Ward. 1968.

– Roth, Philip. Patrimony: A True Story. Random House, 1991.

– Kalanithi, Paul. When Breath Becomes Air. Random House, 2016.

– Selzer, Richard. Letters to a Young Doctor. Harcourt Brace, 1997.

Exit mobile version