معلومات سرية… الحوثيون يرفضون عرضا مغريا قدمته أمريكا، وخوف خليجي كبير من توسع قدرات حكومة صنعاء في الصناعات العسكرية؟ وكيف امتلك الحوثيون صواريخ «فرط الصوتية» (تفاصيل)
فجر اليوم //
كتب الباحث في العلوم السياسية والعسكرية الدكتور المصري احمد عز الدين تقريرا سياسيا لما يجري في الشرق الاوسط ضمن سلسلة دراسات تحت عنوان « طوفان الأقصى في الميزان الإستراتيجي » لخص فيه آخر تطورات الاقليم سياسيا و عسكريا .
نص التقرير:
كيف تصنع نصرا سياسيا من إخفاق عسكري ؟ هذا هو السؤال الذي تبحث الولايات المتحدة الأمريكية عن إجابة عليه ، سواء في رمال غزة أو في مياه البحرين الأحمر والأبيض ، قبل أن تضيف القوات المسلحة اليمنية إليهما جانبا من المحيط الهندي ، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة ما تزال غير مقتنعة بأنها فقدت القدرة على توجيه العمليات التاريخية الكبرى ، لا في الشرق الأوسط فحسب وإنما في العالم أجمع .
غير أن الإجابة على هذا السؤال ربما تأتي في سياق الإجابة على سؤال آخر : ما هو الحل إذا فشلت قدرات وأوضاع العمليات العسكرية في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب ؟ والإجابة التي لا بديل لها منطقيا هي تغيير الأهداف الإستراتيجية للحرب إلى الدرجة التي تتكافأ مع قدرات وأوضاع العمليات العسكرية ، وتلك فيما أحسب هي المعادلة الحاكمة من جانبيها لمستقبل الصراع الراهن في الشرق الأوسط .
لذلك عندما يقول السيد بايدن أن نتنياهو بات يشكل ضررا أكثر مما يشكل نفعا ، فإنه يصطاد من بركة الأزمة الشاملة التي تواجهها أمريكا قبل إسرائيل ، إجابة أخرى على سؤال لم يطرح ، وهو أن الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط باتت تشكل ضررا لأصحابها ، وأدواتها ، وحلفائها ، أكثر مما تشكل نفعا ، وهي تمر بمرحلة خيارات صعبة ، وبمنحنيات بالغة الوعورة والخطورة ، ذلك أنه إذا لم تحقق الإستراتيجية العسكرية أهدافها المباشرة تتحول أدواتها إلى مضادات للإستراتيجية ذاتها ، وتدخل أسلحتها في حالة من التآكل الذاتي ، بحكم أنها لم تعد قابلة للتأثير العميق في البيئة التي تستهدفها ، بقدر قدرة هذه البيئة على التأثير فيها .
لقد بدأت الولايات المتحدة في دفع أعداد إضافية من الوحدات البحرية من الشرق الأمريكي إلى البحر الأبيض ، تحت دعوى إنشاء جسر عائم لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة ، وبعيدا عن موضوع الجسر الآن فسرعان ما رأى بعض المحللين المزمنين على الشاشات ، أن ذلك يعني سعيا أمريكيا إلى ترميم نظرية الردع التي حاولت زرعها في الإقليم ، والحقيقة أن ذلك للأسف يأتي من قبيل الجهل العسكري قبل التضليل والخداع ، ليس لأن نظرية الردع الأمريكية قد تصدعت تماما ، ولكن لأنه لا شئ في العلم العسكري يعني أن ردعا قد تصدع يمكنه أن يكون قابلا لإمكانية الترميم أو إعادة البناء ، فالردع في النهاية رغم مظهر الصلابة الشديدة التي يبدو بها ، يسقط كقطع من الزجاج ، بمجرد خروج الطلقة الأولى أيا كانت فاعلية استخدام القوة ، وهي قوة تقذف نيرانها كما في حالة اليمن فوق مسرح لديها خرائطه وإحداثياته ، بعد أن مسحته بقرون استشعار قوية مئات المرات ، من الفضاء والأرض على امتداد سنوات ، بينما يبدو واضحا أن معرفتها الدقيقة بسطح بنيته الداخلية فضلا عن عمقه محدودة للغاية ، فعندما تصدر القيادة المركزية الأمريكية بيانا في أعقاب عملية القصف الأول لمواقع يمنية يؤكد أنها دمرت 90% من قدرات اليمن العسكرية ، ثم تهبط بياناتها التالية فوق منحدر وصولا إلى الاعتراف الجارح بأن كافة تقديراتها ليست صحيحة ، ثم يقذف اليمن 67 مسيّرة في هجوم واحد على هدف واحد قبل أن يعلن عن توسيع نطاق استهدافه إلى المحيط الهندي ، ثم يجري تجربة لإطلاق صاروخ فرط صوتي تبلغ سرعته 8ماخ أي ثمانية أضعاف سرعة الصوت ( حوالي 10 ألاف كم في الدقيقة ) وهو صاروخ ليس لدى كافة منظومات الدفاع الجوي في الإقليم ، ولا لدى حاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية والغربية قدرة على ملاحقته أو استهدافه ، بما في ذلك باترويت وأرو والقبة الحديدة ، فمعنى ذلك أن الردع الأمريكي لم يسقط فحسب ، ولكن أن ردعا إقليميا ناشئا قد تخلّق ، وأن انقلابا إستراتيجيا حاسما في موازين القوى يتأهب للوقوف على قدميه ، فضلا عن حائط الردع الذي يبنيه حزب الله شمالا والذي يتصلّب بشكل يومي .
لذلك يصل الخوف الخليجي حد ارتعاش الأطراف ، فتسحب الولايات المتحدة كل منظومات باترويت من كافة الأنحاء لتغطي بها مفاصل الخليج ، وما وصل منها للإمارات وحدها باعتبارها هدفا يتمتع بالأولوية 24 منصة ، أما السعودية التي وهبت الدبابات الإسرائيلية منذ بدء الحرب 151 شاحنة بترول حتى الآن ( وفقا لمركز أبحاث أويل تشانج انترناشيونال ) فقد جاهدت لدى الولايات المتحدة لكي توقع اتفاقية دفاع معها ، وقد وصل جهادها إلى حد خروج رئيس معهد واشنطن للدراسات مؤكدا أن الرئيس بايدن ينظر في إبرام هذه الاتفاقية بالفعل ، بينما سبق لها أن عرضت ذلك على إسرائيل عام 2014 دون أن يحظى عرضها بموافقة إسرائيلية ، وقد كان الرفض الإسرائيلي مسببا ، على لسان مدير مركز أبحاث ) بار إيلان ) بأنها سبق وأن خانت اتفاقياتها الدفاعية مع العراق.
لقد قامت أجهزة إعلام إقليمية دون أن تقعد تعليقا على ما نشرته نيويورك تايمز أمس الأول 15 مارس 2024 من أن الولايات المتحدة عقدت اجتماعات سرية مع إيران في مسقط ، سعيا إلى إقناعها بأن تستخدم نفوذها لحث القوات المسلحة اليمنية على إسكات صواريخها ومسيراتها في باب المندب ،لكن إيران ربطت ذلك بإيقاف الحرب على غزة ، والواقع أن ما نشرته نيويورك تايمز لا يمثل سوى نصف الحقيقة ، فقد استبقت الولايات المتحدة هذا الاجتماع الذي عقد في العاشر من يناير بعدة أسابيع ، وقدمت للحوثيين عرضا سخيا يتعلق بتوسيع حدود سلطتهم في اليمن مقابل إيقاف إطلاق الصواريخ والمسيرات ، وقد رفض الحوثيون هذه المساومة على نحو قاطع ، وقد تكررت صور من ذلك تارة بمبعوثين غربيين إلى لبنان ، وتارة بوفود أمريكية إلى المقاومة في العراق ، بهدف واحد هو إسكات النيران وصيانة الردع وانفراد إسرائيل بالمقاومة الفلسطينية .
لذلك كما أشرت من قبل فإن العلّة الأولى في الحصاد الأمريكي والإسرائيلي الراهن ، والذي أصبح يشكّل أزمة مركّبة هو درجة العمى الإستراتيجي الذي أصاب عيون كافة أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية ، والحليفة غربيا وإقليميا ، وفي المقدمة منها الجهاز الذي تولى مسؤولية القيادة والتخطيط والتنفيذ ، وهو المخابرات العسكرية الأمريكية ( سي أي دي ) وهو موضوع جدير بوقفة مفصلّة ومستقلة .
يبقى السؤال معلّقا كيف تصنع نصرا سياسيا من إخفاق عسكري ؟ بالنسبة للولايات المتحدة فقد رأت في أعقاب الفشل الثاني لوكلائها الأمنيين في الإقليم وفي مقدمتهم إسرائيل ، أن تنتزع قالبا كبيرا من كعكة غزة مقدما ، وكانت عيونها منذ البداية مفتوحة على ميناء غزة كقاعدة حاكمة للقيادة المركزية الأمريكية على البحر الأبيض ، وعلى مياه غزة كمنجم للغاز والبترول ، مع العلم بأنه ليس صحيحا ما يشاع من أن احتياطي الغاز قرب سواحل غزة لا يتعدى 35 مليار متر مكعب ، وأنه لا يشكّل مطمعا لأمريكا ، والصحيح وفق تقدير أمريكي أخير ( حسب المجلة الأمريكية للغاز والبترول ) أن هذا المخزون من الغاز البحري يساوي 177 تريليون متر مكعب ( قيمته 554 مليار دولار ) وهكذا فإن بناء أمريكا لواجهة بحرية بطول 5 كم فوق شواطئ غزة مع مساكن عائمة باسم نقل وجبات يومية من الطعام ، أو حتى كممر للتهجير الجبري ، ليس عنوانا دقيقا ، وإنما العنوان الدقيق هو بناء رأس جسر عسكري تتخلّق منه قاعدة عسكرية دائمة كمركز للقيادة المركزية الأمريكية على البحر الأبيض ، مع الإمساك بمخزونه من الغاز البحري .
إذا كان ذلك يشكّل حلّا مؤقتا لحسابات التكلفة الأمريكية ، فإنه لن يمثل حلّا للأزمة المركّبة التي صنعها الإخفاق العسكري ، ولذلك التغير المباغت الذي لحق بموازين القوى ، لكن رأس جسر عسكري أمريكي يتم تحويله إلى قاعدة بحرية متعددة المهام لـ “سنتكوم ” لن يمثل غير تهديد إستراتيجي ثابت لكل الموانئ العربية جنوب المتوسط ، وفي مقدمتها الموانئ المصرية من ميناء العريش الأقرب ، إلى ميناء الإسكندرية وامتداداته على السواحل المصرية ، مرورا برأس الحكمة حتى جعبوب.
مع ذلك يبقى السؤال معلّقا كيف يمكن أن تصنع نصرا سياسيا من إخفاق عسكري ؟
يتبع