لماذا لن تنفع نصائح كيسنجر في إنجاح زيارة تلميذه بلينكن القادمة الى الصين؟ وما هي الأهداف الثلاثة “الصعبة” التي يسعى الى تحققها؟ وكيف أطاح الرئيس الصيني “الداهية” بالنفوذ الأمريكي في “الشرق الأوسط” عبر البوابة السعودية الإيرانية؟
فجر اليوم//
عبد الباري عطوان
عد سلسلة من الاستجداءات، وزيارات سرية ولقاءات مغلقة، أخيرا وافقت الصين على استقبال انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي في عاصمتها بكين نهاية الأسبوع الحالي، ولكن لقاءه مع الرئيس تشي جين بينغ ما زال غير مؤكد.
هذه الزيارة كانت مقررة في شباط (فبراير) الماضي، ولكن ازمة “المنطاد” الذي اخترق الأجواء الامريكية وصور قواعد الصواريخ النووية أدت الى تأجيلها، وتصعيد حدة التوتر في البلدين التي وصلت ذروتها أثناء زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النوب السابقة الاستفزازية لتايوان، وارسال الولايات المتحدة حاملات طائراتها الى خليج الصين في استعراض للقوة اعطى نتائج عكسية تماما.
بلينكن رئيس الدبلوماسية الامريكية يريد من خلال هذه الزيارة تحقيق عدة اهداف:
الأول: محاولة إبعاد الصين القوى العظمى الصاعدة عن الاتحاد الروسي، ودق أسفين الخلاف بين البلدين، وعدم تقديمها، أي الصين، مساعدات عسكرية متطورة لموسكو تعزز كفتها بصورة اكبر في الحرب الأوكرانية، والمقابل استثمارات وتعاون اقتصادي ضخم مع واشنطن.
الثاني: سعي الولايات المتحدة لكسر عزلتها الدولية المتنامية، وانحسار نفوذها، لمصلحة تقدم التحالف الروسي الصيني الجديد، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
الثالث: البحث عن حلول سياسية تحول دون المواجهة العسكرية في الملفين الساخنين عالميا في الوقت الحالي، وهما ازمة تايوان، والحرب الأوكرانية.
الصينيون يعملون بصمت، ولكن بثقة، ويدركون جيدا ان هيمنة الولايات المتحدة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا تتراجع بشكل متسارع، وتعاملت مع الغطرسة الامريكية بالردود العملية، مثل توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الشرق الأوسط، وخاصة المملكة العربية السعودية وايران، وتجسد كل ذلك في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني جين بينغ الى الرياض في شهر كانون اول (ديسمبر) الماضي التي تكللت بتحقيق المصالحة التاريخية بين طهران والرياض، وضم الدولتين الوشيك، الى جانب دول أخرى الى منظومة “البريكس”.
بلينكن ليس هنري كيسنجر، ولن يكون حتى يحقق الاختراق المأمول، وابعاد الصين عن روسيا، فأمريكا تغيرت، والظروف العالمية أيضا، وكذلك الصين التي باتت تقترب من زعامة العالم، ولذلك فإن فرص زيارة الأول في النجاح تبدو محدودة للغاية، ان لم تكن شبه معدومة.
الصين لن تبتعد عن روسيا، فالعلاقات بين البلدين اكثر ترسخا من أي وقت مضى، وباتت محكومة بأهداف استراتيجية مشتركة، أبرزها اسقاط الهيمنة الامريكية، الاقتصادية والعسكرية، وإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب لا مكان لزعامة الدولار فيه.
سياسات “الفهلوة” الدبلوماسية التي يتبعها بلينكن هذه الأيام لم تعد مجدية على الاطلاق، ونتائجها محدودة جدا، فأي نجاح لسياسة خارجية مشروط بنجاح في السياسة الداخلية، ولعل حالة الإنقسام الكبير الذي تعيشه أمريكا هذه الأيام على أرضية الملاحقات القضائية لتجريم دونالد ترامب، وسجنه ومنعه من الترشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل، ونزول أنصاره المتطرفين المسلحين الى الشوارع هو الدليل الأبرز على ما نقول.
جيك سوليفان مستشار الامن القومي الأمريكي التقى سرا مسؤولا أمنيا صينيا كبيرا على هامش اجتماع فيينا قبل شهر، وطار وليم بيرنز رئيس الـ”س أي ايه” الى بكين في زيارة سرية في محاولة لترطيب الأجواء والتمهيد لزيارة بلينكن حاملا عروضا وتنازلات مغرية، ولكن التجاوب ما زال باردا بل صقيعا من الجانب الصيني حتى الآن.
الصين يمكن ان تقدم طوق النجاة لواشنطن في حالتين، الأولى ان تدرك الولايات المتحدة انها تورطت في الحرب الأوكرانية والاعتراف بالهزيمة بالتالي، وقبول الوساطة الصينية للتوصل الى مخرج سلمي ينقذ ماء وجهها، والثانية وقف دعم النظام وخططه الانفصالية في تايوان، والتراجع عن سياساتها المتناقضة المتمثلة في تأييد استقلال تايوان وانفصالها، ومعارضة بل ومقاومة، انضمام الأقاليم “الروسية” الخمس في شرق وجنوب أوكرانيا وشبه جزيرة القرم.
السياسات الامريكية الفاشلة التي يقودها بلينكن ونظرائه السابقين، واعتمدت على الغطرسة والتغول والحروب، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأخيرا أوكرانيا، كانت “هدية” للدبلوماسية الذكية الصينية لإزاحة النفوذ الأمريكي، واخذ مكانته، ولكن بأساليب مختلفة ابرزها الاستثمار، ودعم النمو الاقتصادي، ولغة المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وهذا ما دفع دول مجلس التعاون الخليجي، بزعامة السعودية الى التوجه شرقا الى بكين، وشمالا الى موسكو، والدخول في تحالفات اقتصادية وسياسية مثمرة، أليس الرئيس الصيني هو الذي حقق المصالحة بين طهران والرياض، وأليس الرئيس فلاديمير بوتين الذي أعاد الاعتبار الى أسعار النفط العادلة بتبني اتفاق “أوبك بلس” وإنهاء هيمنة امريكا على منظمة “أوبك”، من خلال توحيدها ومواقفها مع الدول غير الأعضاء فيها وتكريس التنسيق والتعاون بينهما وللمرة الأولى في الخمسين عاما الماضية؟
بلينكن الذي فشل في زياراته الى منطقة الشرق الأوسط، وآخرها الى الرياض، قد يفشل أيضا في زيارته للصين، ليس لانه يستمع الى نصائح استاذه كيسنجر الذي تجاوز المئة عام من عمره، وباتت هذه النصائح والسياسات التي تقوم عليها قديمة وبالية، وانما أيضا لوضعه مصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي، والهيمنة الغربية العنصرية على العالم فوق كل الاعتبارات الأخرى.
الصينيون سيستمعون بكل أدب ودماثة خلق للضيف الأمريكي الذي جاء طارقا مستجديا لأبوابهم، ولكنهم سيأخذون منه اكثر مما سيعطونه، لانهم يتحركون في إطار استراتيجية واضحة المعالم، عنوانها الأهم انهاء النفوذ والسيطرة الامريكية على العالم، وبناء عالم جديد أكثر عدلا، وانصافا، وانتصارا لدول العالم الثالث وفقرائه.. والأيام بيننا.