ذكرت بعض الوسائل الإعلامية عن لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، قوله إنّ الرد الأخير الذي قدّمته طهران، في إطار المحادثات المتعلقة بالاتفاق النووي، “ليس بنّاءً”. وأضاف باتيل، بحسب تلك الوسائل الإعلامية: “يمكننا أن نؤكد أننا تلقينا رد إيران عبر الاتحاد الأوروبي ونحن ندرسه، وسنردّ عبر الاتحاد الأوروبي أيضاً، لكنه للأسف غير بنّاء”.
بناءً عليه، يمكن أن نذهب، وباحتمال كبير، إلى أن المعطيات الأخيرة التي أشارت إلى قرب توقيع بروتوكول العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران غير صحيحة، إذا لم تكن غير دقيقة… فلماذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة (عدم حصول اتفاق)؟ وما المعطيات التي تدفع باتجاه هذا الاستنتاج؟ ومن هو الطرف الذي لم تعد تناسبه العودة إلى الاتفاق النووي حالياً؟
في الواقع، يبدو أن إيران لم تعد مهتمة بالعودة إلى الاتفاق النووي. طبعاً، لا يمكن قول هذا بالمطلق، ولكن أن تعود طهران إلى اتفاق غير متين وغير ثابت، ويُلزمها بكثير من التقييدات الاستراتيجية، من دون أن يكون هناك ما تجنيه في المقابل، وعلى المستوى الاستراتيجي نفسه، فهو أمر قد تكون طهران تجاوزته، وذلك لأسباب عديدة يمكن تحديد أهمها بالتالي:
1 – فشل الإدارة الأميركية الحالية التي تفاوض إيران عبر الأوروبيين أو حتى بما يشبه المباشر في إيجاد صيغة تؤكد أنها قادرة على الالتزام بالاتفاق وبعدم الخروج منه، كما حصل سابقاً مع الرئيس ترامب، وهذا الأمر ليس بالضرورة أن يكون نتيجة عدم رغبتها في تقديم هذا الالتزام، بل بسبب عدم ثقتها في:
أولاً: قدرتها على حماية هذا الاتفاق أمام معارضيه في الكونغرس وفي خارجه، ولا سيما اللوبي الصهيوني ذي التأثير الضخم في الإدارة وفي الكونغرس بشكل عام.
ثانياً: محافظتها على الحكم والبقاء في البيت الأبيض، وبالتالي حمايته على المستويات التنفيذية داخل الإدارة.
ثالثاً: ربما اكتشفت إيران أن ما طرحه الأوروبيون كضمانات لا يحمل أي أبعاد جدية، وخصوصاً أنهم كانوا، وسيبقون، غير قادرين على اتخاذ أي موقف معارض أو مناقض أو على الأقل متحفظ في مواجهة أي إدارة أميركية، سواء ديمقراطية أو جمهورية.
2 – أيضاً، ترى إيران أنها لم تعد معنية بشكل كبير بأمر العقوبات الأميركية، إذ أصبح التعامل معها ومواجهتها نظام حياة وإدارة اعتادته لأكثر من 40 عاماً، وربما تجد صعوبة في التأقلم مع نظام جديد خالٍ من العقوبات الأميركية.
طبعاً، لا يمكن أن يكون هذا الأمر سريالياً هكذا، ولكن النتيجة هي التي تؤكد ذلك، وأرقام الموازنات العامة الإيرانية للسنوات الأخيرة، وما جنته إيران اقتصادياً ومالياً، وما استطاعت التوصل إليه صناعياً وعلمياً، يؤكد أنها أصبحت غير معنية كثيراً بوقف العقوبات الأميركية عليها.
النقطة الأخرى مرتبطة عضوياً بالعقوبات الأميركية أيضاً، ومتعلقة بالنفط، فقد وصلت صادرات إيران من النفط والمشتقات النفطية وكل ما يرتبط بالطاقة إلى مستويات غير بعيدة بتاتاً عن تلك التي كانت قبل العقوبات، وربما تجاوزتها أحياناً!
3- أيضاً، وفي إطار عدم وجود مصلحة لإيران في العودة إلى الاتفاق النووي إلا بشروطها كاملة، يجب الانتباه إلى العلاقة الروسية -الإيرانية مؤخراً، والتي تتقدّم بشكل متسارع، وعلى المستويات كافة، سواء الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية، ومن غير المنطقي أن ترضى إيران بأن تساهم في خلق الفرصة للغرب بالتضييق على موسكو، عبر مشاركتها في تأمين النسبة الأكبر من الطاقة البديلة للطاقة الروسية، والتي استطاعت موسكو استعمالها كسلاح فعال في مواجهة العقوبات والضغوط الغربية عليها بسبب الحرب في أوكرانيا.
هذا لناحية المعطيات المفترضة أو المقدرة بأن إيران سوف تبني عليها موقفها لتكون متشددة، وعلى أعلى مستوى، في قبولها العودة إلى الاتفاق، ولكن ماذا عن المعطيات المرتبطة بالموقف الأميركي؟
ربما، وحتى الأمس، كانت هناك صعوبة لدى أغلب المتابعين في استشراف حقيقة الموقف الأميركي من هذا الملف، بمعنى، هل إدارة الرئيس بايدن جاهزة ومستعدة لتقديم ما يرضي أو يقنع إيران بالموافقة على بروتوكول العودة إلى الاتفاق النووي أم أن هذه الإدارة، وبمعزل عن بند الضمانات التي تبحث عنها إيران لعدم تكرار انسحاب الأميركيين من الاتفاق، غير قادرة على تسويق صفقة سيئة بالنسبة إليها وتبريرها، بحيث تخرج منها طهران منتصرة، فيما تخرج واشنطن و”تل أبيب” خاسرتين ومهزومتين؟
ولكن ما حصل بالأمس حين دخل الرئيس بايدن على خط ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” مباشرة، وطلب من رئيس وزراء العدو الإسراع في إنهاء هذا الملف، وإعطائه أهمية حساسة حالياً، يعادل ربما أهمية ملف أوكرانيا أو ملف المفاوضات مع إيران، ويمكن أن نستنتج منه أن غاز شرق المتوسط أصبح يشكل ما يشبه الورقة الأخيرة في يد الغرب لتأمين نسبة معقولة من الطاقة (الغاز تحديداً) كبديل من الغاز الروسي، وأن إمكانية دخول الطاقة الإيرانية الأسواق الأوروبية قريباً، كبديل للطاقة الروسية، أصبحت ضعيفة جداً، على الأقل في المدى المنظور، ريثما تتظهر معطيات الحرب في أوكرانيا.
من هنا، يمكن أن نستنتج النقاط التالية:
أولاً: إن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران معرقلة حالياً أو مؤخرة إلى وقت غير محدد.
ثانياً: إن ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” يتقدم بشكل متسارع، و”إسرائيل” سوف توافق على مطالب لبنان كما تسلمها الوسيط الأميركي آموس هوكستين.
وهكذا، تكون “إسرائيل” قد تنازلت في الملف اللبناني، فتربح أولاً الهدوء وعدم التصعيد في مواجهة حزب الله، وتربح ثانياً عرقلة ملف الاتفاق النووي مع إيران، وتكون واشنطن قد أوجدت حلاً معقولاً، ولو بنسبة جزئية، لملف بديل الطاقة الروسية للغرب، وتكون إيران أثبتت صلابة في مواجهة نصف العالم تقريباً من دون أن تتنازل، وتكون روسيا قد احتفظت بنقاط وعناصر مناورة الضغط التي تمارسها حالياً على الغرب.
المصدر حساب الكاتب +قناة الميادين