عن فينيسيا «البندقية» المدينة التي لا تعرفونها؟!
فجر اليوم//
مدينة فينيسيا أو “البندقية” واحدة من أكثر المدن أيقونية على الإطلاق وبوتقة امتزاج الحضارات منذ نشأتها وحتى بداية عصر العولمة، ومنذ نشأتها وهي من أغنى مدن العالم ومن أكبر رعاة وحاضانات العلوم والفنون والآداب وبالتالي من أعلام وكبار المشاركين ومشاتل الأفكار والفنون في عصر النهضة الإيطالي، وأول مدينة تستحوذ على وضعية “مدينة دولية” بالمعنى الحقيقي للكلمة ولا تزال من أشهر وأجمل المدن وأكثرها جذبًا للسياح، يزورها سنويًا 31 مليون سائح (اكثر من 117 ضعف تعداد سكان المدينة نفسها!) تسمية “بندقية” العربية تأتي من لقب قديم لفينسيا “بونا دوكاتو” Buona Ducato أو “الدوقية الجميلة” والدوقة ducato أو duchy بالإنجليزية هي نطاق حكم أو المدينة التي يحكمها “دوق” أوروبي.
.
المدينة عبارة عن 118 جزيرة تفصلها القنوات المائية الشهيرة وتربطها جسور ومركز المدينة مبني على جذوع شجر ومازال هذا هو الوضع حتى الآن. وظيفة “المُجدّف” gondolier أو الذي ينقل الناس بالقوارب عبر قنوات المدينة من أكثر الوظائف المرغوب فيها وسعيًا خلفها في المدينة وأيضـًا من أصعبهم في الحصول عليها، لا يوجد سوى 425 رخصة فقط وتتطلب أكثر من 400 ساعة من التدريبات، وبعد وفاة أي مجدف تنتقل الرخصة لأحد المنتفعين والذي يقرر من يحل محله، ولا يوجد في تاريخ المدينة سوى أنثى واحدة شغلت هذه الوظيفة، ولكنها في الحقيقة ذكر متحول جنسيًا جزائري ألماني يدعى Alex Hai .
.
من أشهر العلماء الذين رعتهم فينسيا كان جاليليو جاليلي، فبعدما سمع جاليليو عن الإختراع الجديد “عدسة التجسس الهولندية” Dutch spyglass (نوع من العدسات المكبرة المخترعة حديثـًا وقتها في هولندا) بدأ في مشروعه الخاص بتحسين العدسة وتحويلها لإختراع أقوى وأفضل بمراحل في التكبير والرؤية عن بعد وفي النهاية عن طريق تنعيم وتشذيب مرايا العدسات (عن طريق حكها وكشطها ) ووضع أكثر من عدسة بوضعيات معينة أستطاع إختراع التيليسكوب والذي هو افضل كثيرًا من العدسة المكبرة. وقتها كان جاليليو غارقـًا في الديون حتى عنقه ومعني بالصرف على إخوته، وعرف أنه إذا أراد أن يجني الأموال من هذا الإختراع الجديد لتسديد ديونه وسد إلتزاماته وتمويل باقي مبادراته العلمية، فلا يوجد سوى مكان واحد يذهب إليه ليرى القوة الجبارة التي يتيحها إختراعه الجديد، فينيسيا.
.
بسبب أن وضع فينيسيا كأهم مدينة ساحلية يجعلها تحت تهديد مستمر من الإغارات ومحاولات الإحتلال من القوى الخارجية (وأيضـًا وضعها كأهم مركز تجاري بحري) فكان من العوامل الجوهرية والحاسمة لتجارة المدينة وحتى بقائها هي أن يرصدوا السفن من على مسافات سحيقة، وإختراع جاليليو أمدهم بعين ما يحلمون به، وعن طريق مساعدة صديقه القس Paolo Sarpi أستطاع الوصول لحاكم المدينة Leonardo Donato ومجلس الشيوخ واقام تجربة عملية لإختراعه عليهم من فوق واحد من أشهر معالم المدينة والعالم “كاتدرائية القديس مرقس” فحاز على مكافأة مادية كبيرة ومنصب كبروفيسور في جامعة Padua.
.
من الأحداث الشيقة في تاريخ فينيسيا أنها خلال الحملة الصليبية الرابعة أدت لسلسلة من الأحداث التخريبية التي وللعجب والتناقض أدت بشكل غير مباشر لعصر النهضة.
بعد الحملة الصليبية الثالثة كان العرف السائد في أوروبا هو أن مصر هي المدخل المثالي للجائزة النهائية (القدس) وبالنسبة لفينسيا فهذا كان يروق لهم لأسباب تجارية قبل الروحانية، لأن فينيسيا كانت تدرك القيمة الكبيرة للإسكندرية كميناء هام جدًا في شمال إفريقيا، وإذا أستطاعوا وضع يديهم عليها فستكون غنيمة ثمينة جدا، وحيث أن فينسيا بالفعل كانت من أكبر المواني ومحطات إنطلاق الحملات الصليبية، فوافقت على تمويل الحملة الصليبية الرابعة بالكامل، شريطة أن يستحوذوا على الإسكندرية إذا نجح الصليبيون في إحتلال مصر.
.
وبالفعل أتخذت فينيسيا على عاتقها مجازفة كبيرة جدًا بإيقاف جميع أنشطتها التجارية بين عامي 1201 و1202 وكرست جميع جهودها ومواردها لبناء أسطول كبير جدًا من السفن لحمل جيش الصليبيين من أنحاء أوروبا (وخاصة فرنسا) للشرق، الحسابات كانت أن قوام الجيش الصليبي ستكون حوالي 33500 جندي ولكن العدد الذي حضر في وقت الحملة كان حوالي ثلث هذا العدد (12000 فقط) مما أدى لأزمة كبيرة جدًا لأن الغالبية العظمى من الجيش والعتاد والمؤن التي أعدتها فينيسيا للحرب الآن أصبحت بلا فائدة أو حاجة أو إستخدام وكان على الجيش الصليبي أن يسدد ديون وتكاليف هذه الموارد المهدرة قبل إستخدام أي من الأسطول للذهاب لمصر.
كطريقة لتسديد الديون أقترح حاكم المدينة الدوق الأعمى Enrico Dandolo على قادة الحملة الصليبية أن يهجموا على مدينة في كرواتيا تدعى Zadar وهو ما حدث مما أدى بالبابا لتكفير كل الجيش الفينيسي المشارك في هذه الحملة، وبعدها تعرف أحد قادة الحملة الصليبية الرابعة “بونيفيس الأول” على “ألكسيوس أنجيلوس” ابن الملك البيزنطي (اليوناني) المخلوع حديثــًا بإنقلاب عسكري، ووعدهم ألكسيوس أنهم إذا أستطاعوا إعادته للعرش سيرد لهم المعروف بأن يمول جميع جهودهم العسكرية ويسدد ديون فينيسيا وينفذ جميع مطالبهم (المملكة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية كانت معروفة بثرائها الفاحش في ذلك الوقت) وهو ما فعله الصليبيون بالفعل في الحملة الرابعة وشدوا الترحال مع ألكسيوس إلى القسطنطينية لإعادته للعرش ولكن بعدما نجحوا في السيطرة على المدينة أختاروا أن يمكثوا هناك بدلًا من التوجه لمصر وأقاموا مملكة كاثوليكية في شرق أوروبا الأرثوذكسي أستمرت قرابة القرنين وأدت إلى إضعاف المملكة البيزنطية بشكل كبير جدًا لدرجة أنها أصبحت سهلة الغزو للعثمانيين، وبعدما غزاها العثمانيون بنجاح (عام 1453) أندلعت موجة فرار عاتية للدارسين والعلماء والأدباء من المملكة البيزنطية إلى إيطاليا حاملين معهم المخطوطات والمعارف التاريخية لليونان القديمة وبفضل أجواء تشجيع ورعاية العلماء والأدباء في إيطاليا في ذلك الوقت أستطاع هؤلاء الدارسون أن يزدهروا ويطوروا تلك المعارف ويشاركوها مع الدارسين من غرب أوروبا مما في النهاية كان من أكبر الأسباب أن تكون إيطاليا بؤرة عصر النهضة