لماذا نعتبر الاتفاق السعودي الإيراني نقطة تحول تاريخية في المنطقة؟ وكيف أصبحت الصين لاعبا استراتيجيا في الخليج على أنقاض الضعف الأمريكي وعبر البوابة السعودية؟ وأين كانت الاستخبارات الإسرائيلية “العملاقة”؟ وهل ترقد اتفاقات ابراهام في العناية المركزة الآن؟
عبد الباري عطوان // فجر اليوم//
الاتفاق السعودي الإيراني الذي رعته الصين، وجرى الإعلان عنه امس، يشكل “تسونامي” استراتيجي ينبئ بقرب نهاية 80 عاما من الهيمنة الامريكية البريطانية على منطقة الخليج والشرق الأوسط، وصعود دور الصين كلاعب استراتيجي مهم في المنطقتين، وعبر البوابة السعودية الأهم سياسيا واقتصاديا.
المملكة العربية السعودية، ومن خلال طبخ هذا الاتفاق على نار هادئة، وسط تكتم شديد، باللجوء الى الحوار، أوقفت نزيفا ماليا عسكريا في حروب مباشرة او غير مباشرة مع ايران، وتوفير مئات المليارات من الدولارات، سيتم توظيفها في تعزيز قوتها، وتمويل مشاريعها المستقبلية التي تريد ان تتحول من خلالها الى قوة مالية واقتصادية، وربما عسكرية ضخمة لاحقا تستند الى التصنيع والاكتفاء الذاتي وتعدد مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على البترول وحده.
***
هذا الاتفاق يعكس أكبر علامات الضعف للثنائي الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة والعالم بأسره، وبداية انهيار مشاريع هذا التحالف الضخمة وأبرزها تأسيس محور للاعتدال بقيادته من الممالك والدول الخليجية الغنية، ونسف كل خططه باستخدام “بعبع” ايران، وخطرها المزعوم، كورقة ابتزاز عسكرية وأمنية، وبما يؤدي الى استمرار الهيمنة وتعميقها.
“إسرائيل” وطوال السنوات العشرين الماضية، كانت، ولا تزال، تعيش “هوسا” اسمه ايران، وتحشد كل قدراتها وعلاقاتها ولوبياتها اليهودية من اجل محاربتها، واضعافها، وتشكيل حائط صد لها في الدول العربية للأسف، ووضع الخطط لشن عدوان عليها لتدمير برامجها النووية، ولكن النتائج جاءت عكسية تماما، فها هي ايران تعيد علاقاتها مع السعودية، خصمها المفترض، وتوقع اتفاقا تاريخيا يعيد تفعيل التعاون الأمني بين البلدين ما يفتح المجال امامها للمضي قدما في تخصيب اليورانيوم بنسب تزيد عن 90 بالمئة وبما يؤهلها لإنتاج قنابل نووية.
لا نستبعد مطلقا ان تكون المملكة العربية السعودية، وبعد هذا الاتفاق، المستفيد الأكبر من الخبرات النووية الإيرانية، والعسكرية التقليدية، فلا توجد هناك أي موانع، اذا صدقت النوايا، ونعتقد انها صادقة، لتعاون إيراني سعودي في مجالات البرامج النووية، والتصنيع العسكري، خاصة ان ايران متقدمة جدا في انتاج الصواريخ الدقيقة، والأسرع من الصوت، والمسيّرات والغواصات، فايران، وعلى عكس الباكستان تملك قرارا مستقلا، ولا تخضع للهيمنة الامريكية واملاءاتها وقيودها.
القيادة السعودية “خدعت” دولة الاحتلال الاسرائيلي، مثلما خدعت أمريكا، وكل حلفاء الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، ونحن نتحدث هنا عن مصر والأردن، والمغرب وإسرائيل والسودان، عندما أخفت عن هذه الدول خططها بالاتجاه شرقا الى الصين، وشمالا الى روسيا بسبب نظرتها الاستراتيجية بعيدة النظر، والقائمة على أساس دراسات متعمقة، عمودها الفقري التوصل الى قناعة بانتهاء العصر الأمريكي، وزعامته للعالم، وضرورة الانتماء وبسرعة الى النظام العالمي الجديد البديل بزعامة بكين وموسكو.
اتفاقات سلام ابراهام التي راهنت عليه دولة الاحتلال كمسار لتعزيز هيمنتها على المنطقة وثرواتها، كانت تنتظر الجائزة الكبرى، أي انضمام السعودية اليها، باتت في غرفة العناية المركزة بعد الاتفاق الإيراني السعودي، فعندما تتحالف القيادة السعودية مع الصين وروسيا، وبالتالي دول منظومة “البريكس” (جنوب افريقيا والبرازيل والهند)، فإنها لم تعد بحاجة الى “إسرائيل” او الولايات المتحدة، او القبب الحديدية الأكذوبة، او صواريخ الباتريوت الفضيحة، فالبديل صواريخ “اس 500″، وطائرات “سوخوي 35” الأكثر تطورا من نظيرتها الشبح الامريكية متعددة العيوب، ويعلم الله يما يوجد في الترسانة الصينية من مفاجآت.
اين المخابرات الإسرائيلية التي تزعم انها ترصد حركة النمل بدقة في المنطقة، وتجني المليارات من وراء بيع خبراتها للمغفلين في هذا الإطار، لماذا لم تكتشف هذه المفاوضات السعودية الإيرانية وتقدمها ابتداء من جولاتها الأولى في العراق والثانية في سلطنة عُمان، والثالثة المتوجه للاتفاق في بكين؟ اين أجهزة تجسسها المتطورة وشبكة عملائها؟
كنا، ومنذ عقود، نطالب بعدم الإنجرار خلف المؤامرة الامريكية الإسرائيلية لشيطنة ايران، من خلال مشروع التحريض الطائفي، وخلق فتنة تقود الى العداء والحروب الاستنزافية المدمرة، وطالنا الكثير بسبب هذا الموقف، فايران دولة جارة مسلمة، لا يمكن التعامي عن وجودها، وإلغاء مكانتها الجغرافية ودورها الحضاري وتاريخها الامبراطوري الذي يمتد لأكثر من 8000 عام على الأقل، فلماذا نعاديها ونتطوع في مشاريع الأعداء لتدميرها ونوظف مئات المليارات من أجل هذا الهدف؟
نشعر بالأسى للحكومات العربية التي سقطت في مصيدة التحريض الامريكية الإسرائيلية ضد ايران، ووضعت كل بيضها في سلة البلدين، وذهبت بعيدا في الانضمام الى منظومة النقب، وقمة العقبة، لتكون عضوا أساسيا في تحالف إسرائيلي استعدادا لضرب ايران، فماذا تقول هذه الحكومات الآن، بعد الاتفاق السعودي الإيراني؟
***
لا نذهب بعيدا ونقول ان السعودية بصدد الانضمام الى محور المقاومة، وان كانت هذه احدى أمانينا، ولكننا نجزم بأنها أوشكت على الخروج من المحور الأمريكي، ومن كل مؤامراته ضد العرب ولمصلحة الهيمنة والتفوق الإسرائيليين، ونتوقع نهاية وشيكة للحرب اليمنية، بدأت بالمفاوضات الحوثية اليمنية السعودية، وتبادل الاسرى، وتوقيع اتفاقات الهدنة برعاية دولية شكلية، وستنتهي حتما بتحالف بين البلدين الشقيقين على أرضية الاحترام والتعاون المتبادل.
السعودية تتغير استراتيجيا، و”اليمن الجديد” القوي عائد على أرضية التصالح معها، والصين أصبحت لاعبا استراتيجيا في الخليج والشرق الأوسط عبر بوابة السعودية، وعلى حساب تراجع النفوذ الأمريكي، ومهرجانات “اللطم” في تل ابيب ستطول، ولا عزاء للحكومات العربية التي أعماها الضلال الإسرائيلي عن رؤية التطورات المتسارعة هذه، وقطعت كل علاقاتها مع ايران تماشيا مع الاملاءات الامريكية الإسرائيلية.
نحن امام نقطة تحول تاريخية في منطقتنا نأمل ان تستمر وتتعمق، فهذا الاتفاق يؤذن بنهضة جديدة، على أسس الحوار والتفاهم، وانهاء 80 عاما من الهيمنة الامريكية والغربية كانت استعمارا مقنعا.
شكرا للصين وقائدها الذي رعى هذا الاتفاق، وأنضجه على نار هادئة، وشكرا لسلطنة عمان لحكمتها الدائمة، وشكرا للعراق ودوره في احتضان المباحثات، وشكرا للقيادتين السعودية والايرانية، اللتين اقدما على هذا الاتفاق بعد قراءة صحيحة وذكية للتطورات العالمية، وانهيار هيمنة القطب الأمريكي الواحد على مقدرات العالم وزعامته، ووضع مصالح الامتين العربية والإسلامية فوق كل اعتبار.