ابتسام المقرن: رواية حوش عباس.. ألمٌ يَقهرُ الجبل

حياة مشطورة يعيشها “جيلان” منذ البداية فهو ابنٌ لأمٍّ يمنية وأب سعودي في “المجدّعة”؛ قرية حدودية بين اليمن والسعودية. أمه “سلمى” التي كانت تعاني (من شدة الجوع الذي ضرب قريتها المشطورة إلى نصفين، ودولتين، وشعبين على خطٍّ حدوديّ) ص10 وتظن أن زواجها من رجل ثريّ سيغيّر حياتها للأفضل، ولم تسمع لحكمة أمها ” الجدة خاتمة” التي تعاتبها وتقول: (اطلبي من الله ما يصلح لفقركِ، وليس ما يصلح لتعاستكِ، فالثريّ سيؤذيكِ غيره إن لم يؤذِك هو).

وكأنها تعطينا مفتاح البداية لهذه القصة المشوقة التي يرويها لنا “جابر مدخلي” على لسان “جيلان” الذي يتقاسم بطولة هذا العمل مع جبل الدود، ذلك الجبل الشامخ الذي يقف على الحدود السعودية – اليمنية، وبقي شاهدًا على كل ما يحدث هناك من قصص تحدث على تلك الحدود.

هذا الجبل لم يكن معلمًا فقط يقسم الحدود، ويشاطرهم هواء قريتهم وأحداثها. بل كان بمثابة الأب الحقيقي لجيلان الذي يحتمي به ويرتمي في أحضانه، تلك الصخور التي تعرف كيف تفتح أحضانها له، وكيف تبكي على فراقه؛ “جيلان” الذي لم يعش تحت جناح أبيه الحقيقي إلا وهو ابن تسع سنوات؛ (كانت الجبال تربيني بهدوء، كأنها تهيئني لصلابة غيبيّة قاتمة قادمة) ص 7. فتعلّم “جيلان” كيف (يحمل من الجبال عزتها وأنفتها) ص 26. كان الجبل هو السند لأمه حتى كبر، (كبرت وأصبحت في عين أمي جبلًا) ص 10، كالجبل الذي يحوي تلك البقة المباركة التي تقصدها للدعاء كل ما همّها أمر ما، البقعة التي كانت بمثابة مصلاها يلثمون فيها رائحتها ويشعرون بأنفاسها ودموعها.

“حوش عباس”.. رواية مقسمة إلى ثلاثة تكوينات، كل تكوين يمثل مرحلة في حياة “جيلان” على مدى عشر سنوات خلال قصة تبدأ أحداثها ما قبل الألفية قليلًا. نجح “جابر مدخلي” في أن يشد انتباه القارئ منذ البداية ويجعله متحفزاً ومتهيئًا لما قد يحدث لهذا الطفل “جيلان” الذي أهدى له “مدخلي” هذا العمل وقال: (إلى جيلان الذي سوّيته بيديّ..) وجعله الراوي المتكلم الذي ينقل لنا أحداث حياته وأفكاره وتساؤلاته (أكثر ما أماتني طوال عمري الفائت هو السؤال) ص 278. فيجعلك تحتار أحيانًا كيف لطفل أن يفكر بهذه الطريقة وأن يصل إلى هذا العمق من المعاني وفلسفة الحياة. (الذين يكرّسون أعمارهم من أجل تغيير مفاهيم الناس، وإيصال تيارات الوعي إلى أذهانهم لا يهرمون أبدًا، ولا يتألمون مهما طعنتهم الحياة في خواصرهم؛ لأنهم بكل يوم يبنون فيه ذهنًا واعيًا يعيشون أطول من أعمارهم، ويسعدون رغم أن الوجود بكامله يسلب منهم طعمًا كاملًا للسعادة) ص220. بعض العبارات أجد أنها تتداخل ما بين الروائي وبين الراوي، وهكذا أجدني أستسيغها أكثر وتُقنعني كقارئ يصعب عليه أن يتقبل مرور هذه الأفكار في ذهن “جيلان” الذي قال لنا بأنني (كبرتُ في ليلة عودتي تلك) ص 82. وكأنه يؤكد لنا أن عمر الشخص بما يرى ويعيش من تجارب مؤلمة. كم عمر أُضيف إلى عمرك في هذه السنوات العشر التي مرّت بنا ونحن نقلّب هذه الصفحات المشوّقة التي استطاع “مدخلي” من خلالها أن يُمسك بنا ولا يمنحنا فرصة لالتقاط أنفاسنا وتهدئة قلوبنا التي تركض على هذه الصفحات لتعرف ما الذي سيواجهك أكثر؟ وهل سينتهي كل هذا أم لا ؟؟ كما أن السؤال الذي لا ينفك يحاصرني أثناء قراءة العمل: ما الذي جعلهم يرون فيه المخلص، وجعلهم يثقون فيه ويستودعونه أسرارهم الكبيرة والعميقة والتي فاضت بهم واستودعوها “جيلان/ الجبل”.. (حجم الجبال التي عدتُّ أحملها على ملامحي) ص 277
يبدأ التكوين الأول وجيلان ابن تسع سنوات بلا شهادة ميلاد ولا أوراق ثبوتية ولم يدخل المدرسة حتى الآن.. الأمور التي تعد بديهية لمن هم في مثل سنّه. ولكننا في هذه الرواية نتعرف على جانب آخر من الحياة لا نعرفه ولا نشاهده (أتذكر أن الخط اليمني وما خلفه، كان عُششًا متهالكةً وأقفاصًا من الزنك غير صالحة للاستيطان الآدمي.) ص 11 في هذا التكوين نتعرف على ملامح من حياته في الجزء اليمني من هذه القرية، ثم انتقاله إلى “أبو عريش” وتعرفه على الحياة السعودية ومحاولة الاقتراب من الأطفال هناك، مما يدفعه للتخلي عن ثقافته ولهجته ليتمكن من الانضمام لهم واللعب معهم. (خلعت ذلك اللباس الذي ارتديته طوال طفولتي دون أن أخجل منه، أو يعاتبني أو يعايرني عليه أحد. إنه ثقافتي التي رفضوني لأجلها) ص43. ومع بداية التكوين الثاني يرتفع عنصر التشويق بأحداث الرواية، ونتعرف على حوش عباس وأحواش أخرى تختلف عنه في الاسم وتتفق معه في الهدف، حتى نصل لمنتصف التكوين الثالث والأخير فتصدمنا “صدفة” جاءت مكررة نوعًا ما في الرواية، تجعلك تتساءل لو لم يكن الحدث بهذه الطريقة، هل سيكون مسار الأحداث أقوى..؟ ولأول مرة كنت أتمنى أن تنتهي الرواية بنهاية مفتوحة أو نهاية مختلفة، ربما كانت النهاية لا تتناسب مع سخونة الأحداث السابقة، ولكنها جاءت متفقة مع رغبة قلوب الأمهات، ومَن يدري لعل لـ “مدخلي” رأيٌ آخر..!

الرواية تطرقت لعدد من الموضوعات والقضايا المهمة من خلال قصة “جيلان ورفاقه”، وجاء ذكرها سلسًا ضمن سياق الأحداث، تحدثت عن موضوعات سياسية تتمثل في مشكلة ترسيم الحدود بين اليمن والسعودية التي تم حلها بشكل رسمي في عام 2000 ، وتلميحات عن أحداث تاريخية قديمة حول “سوق الصميل” الشاهد على آثار الثورة اليمنية، وأخرى اجتماعية تتعلق بمشاكل الأبناء من أم غير سعودية، وأب سعودي؛ وما يطالهم من إهمال وما يترتب على ذلك من إثارة مشاعر الغيرة وإشعال فتيلها بين الأخوة. (أنت أصغر أبنائي، وأكثر مَن انحرم من قربي) ص 51.. والغيرة قوة مدمّرة قد تدفع بالأخ لفعل تصرف يندم عليه، ولا يخلو التاريخ من هذه القصص (هابيل وقابيل، قصة يوسف عليه السلام وأخوته، وغيرها)، كما تعرضت لشخصية الأب الضعيفة وتسلط زوجة الأب وقسوتها. و تطرقت لأهمية التعليم وكيف يمكن أن تغيّر به مصيرك (الغد لا يبنيه إلا متعلم) ص 177.

وحدثتنا عن موضوع قلّما يُطرح في رواية محلية، عن العصابات على الحدود وكيف تدير أعمالها، وكيف تنفذ خططها المدمرة، وكيف تستعين بأبناء البلد على تدمير أوطانهم..! “حوش عباس” ظهرت فيها المرأة بصورة جميلة في أغلب الشخصيات المحيطة بـ “جيلان”: (الأم سلمى، والأم رحمة، والمعلمة رانية، والجدة خاتمة، والأخت أماني) وكيف تركن جميعًا أثرًا لا يُمحى في حياة هذا الطفل الذي أضحى شابًّا مازال يستقي دروس الحياة من مواقفهن وحكاياتهن وأسرارهن، لتعبّر عن دور المرأة الكبير والمؤثر في الحياة. ومن جماليات الرواية أن أحداثها وتأملاتها تم تناولها من خلال المزج بين الثنائيات التي تشطر كل شعور وكل موقف (الخير والشر؛ الفقر والثراء؛ العلم والجهل؛ الثقة والشك؛ الخوف والأمان؛ الضحك والبكاء؛ اليأس والحلم). كل هذا جاء بلغة رشيقة بديعة تمتعك رغم قسوة الأحداث على القلب.

وغلاف الرواية للرسامة “ندى عبد الله” لوحة متسقة مع العمل وكأن “جيلان ورفاقه” اختاروا أن يعاقبوننا جميعًا بتلك النظرات الحزينة المتسائلة: لماذا نحن؟ أين أنتم؟ تعالوا وابحثوا عنّا..!
“حوش عباس” للروائي السعودي جابر محمد مدخلي.. صدرت في منتصف العام 2022 وطُبعت الآن طبعة ثانية، في زمن قصير نسبيًا بالنسبة لرواية محلية، وذلك للصدى الإيجابي الذي رافق العمل منذ بداية صدوره حتى لحظة كتابة هذا المقال. فهل يمكن أن نرى هذه الرواية وقد تحولت إلى فيلم سينمائي يحبس الأنفاس..؟!

كاتبة سعوديةومدوّنة – @E_almegren

Exit mobile version