فجر اليوم //
إبتداءً، “لا بد من صنعاء وقد طال السفر” كما كتبها الشاعر اليمني عبدالعزيز المَقالح منذ عشرات السنين:
“يوما تغنّى في منافينا القدر .. لا بدّ من صنعاء وإن طال السفر
صنعاء وإن أغفت على أحزانها .. حيناً وطال بها التبلد والخدر
سيثور في وجه الظلام صباحها .. حتما ويغسل جدبها يوماً مطر”
نعم، انها اليمن ان صلحت صلح العالم، وان اضطربت اضطرب العالم ..
قد يبدو المشهد الدولي في قمة التشابك، كما في ذروة الانهماك في الصراعات الكبرى مع غياب كامل لأي مؤشر باتجاه “يالطا” او “هلسنكي” .. اما بعد بروز القرار الأميركي القاطع بتفادي أي مواجهة مع إيران، وانكشاف الإحجام الأميركي عن تنفيذ تعهدات الحماية لشركائها في المنطقة، فقد اتضح السعي الامريكي الى وضع قواعد اشتباك تضمن عدم الانزلاق او الانخراط في منازلة مباشرة مع قوى المقاومة سواء في اليمن أو لبنان أو سورية أو العراق .. وعليه، فهل بدأت اعادة التموضع العربي على قاعدة الفصل بين الملفات وقانون المصلحة؟ وهل غدت المصلحة السعودية مع روسيا نفطيّاً، ومع الصين تجارياً، ومع سوريا سياسياً، ومع إيران استراتيجياً، ومع اليمن امنياً؟
فالموقع الجيوسياسي اليمني، الى جانب ديناميكية حركة أنصار الله والاقتدار الحربي العسكري، يجعل من اليمَن لاعباً اساسياً في الساحة الدولية ومعادلات الدول الكبرى نظراً لمستقبل الأمن في المضائق والخلجان والمياه الدولية اليمنية او المحيطة بها، وانعكاس ذلك على التجارة العالمية ومسارات نقل الطاقة وتحديد سعر النفط والغاز العالميين اخذين في الاعتبار حساسية الاضطراب الناشئ في سوق النفط والغاز على خلفية الصراع الروسي الأطلسي الأميركي في أوكرانيا .. فهل تتقدم التسوية السعودية اليمنية (استقبال رسمي علني لوفد من أنصار الله ضمن مباحثات سعودية يمنية مباشرة تطال ملفات الرواتب والأسرى وفك الحصار، بما يعني فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة – اثر وساطة عُمانية وترحيب أمريكي) إسوة بتطبيع العلاقة السعودية الإيرانية والسعودية السورية دبلوماسياً بتبادل السفراء؟ ولا يخفى ان ذلك يشكل ملفاً أولياً في التعاون الإيراني السعودي، وموضوع اهتمام ومتابعة صينيّ ..
وهل تكون هذه بداية النهاية للمتاهة اليمنية وهيروشيما البسوس رغم زعم وزير خارجية ترومان Dean Acheson عن اقتراب العقل العربي بحمولته الدينية من العقل الوثني لنتعاطى مع العالم على انه مهرجان للعدم!؟ وهل يتم التوقف عن استدعاء “فارسية” ايران و”مجوسيتها” و”شيعيتها” مذ خلعت النجمة السداسية ورفعت محلها العلم الفلسطيني في طهران!؟
نعم، “كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَـٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذۡهَبُ جُفَاۤءࣰۖ وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمۡكُثُ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ” [الرعد – 17]وها هو عبدالله البردوني يعيد صياغة قصيدته المعروفة “أبو تمام و عروبة اليوم” فيقول:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟
مليحة شامخة رغم العصف والحزم ..
رغم الغزو والكوليرا والنوى والكرب!
هم هدروا دمنا .. ونحن من دمنا نشرب ونحتلب ..
“سحائب الغزو تشوينا و تحجبنا”
“يوما ستحبل من ارعادنا السحب”
“إلا ترى يا أبا تمام بارقنا”
“ان السماء ترجى حين تحتجب”
من دمشق فبغداد الى اليمن فالقدس .. ومن “الكم” الى “الكيف” .. من التراكمات الكمية الى التغييرات الكيفية! و”زنوبيا” تحيي الانتصارات الاستراتيجية التي مافتئت تتراكم على أيدي الجيش العربي السوري ورجال الله في الميدان .. اما مشروع الشر الصهيواوروبيكي فما فتئ يتهاوى .. من هزيمة الى سقوط لتجدد قوانين المادية الجدلية والمادية التاريخية صدقيتها وتؤكد مصداقيتها بانتصارات ما فتئت تتوالى من سوريا فالعراق الى اليمن ففلسطين (جنينغراد)!
وهكذا يمكننا فهم المعنى التاريخي للمعارك والحروب والانتفاضات بوصفها تراكمات كمية تؤدي الى تغيير كيفي ينطوي على ازالة العدوان برمته لا مجرد اثاره .. وهذا ما بات يدركه المحور الصهيواوروبيكي متيقنا ان انتكاساته المتراكمة ليست مسألة سوء حظ وحسب، بل مسار سيصل ذروته وتبدأ عملية التطور النوعي فتزول اسرائيل وتعود فلسطين بكليتها من البحر الى النهر ومن الناقورة الى ام الرشراش، وتعود للأمة كرامتها .. وفي الطريق يتساقطون من اليمن الى العراق بعد سوريا بصرف النظر عن قصص ومحاولات تفتيت المنطقة (سوريا والسعودية) بلعبة شطرنج لا يكش لها او بها ملك (بالمضارع المبني للمجهول).
انه التراجع التدريجي للجيوبوليتيك الأميركي في المنطقة: يريدون إيقافه فخسارة إدلب مثلاً تشكل انكشافا عسكريا لاحتلال أراض سورية شرق الفرات (الأميركيون والأوروبيون) وشمال سوريا (الأتراك) .. وما هذا الصراخ الاتي من الغرب الا تعبّير عن استعصاء استراتيجي في محاولة لمنع تظهير موازين القوى التي فرضتها ساحات المواجهة في أوكرانيا وسورية وإيران وفلسطين ولبنان، وهم يسعون جاهدين للعثور على مخارج تضمن أمن كيان الاحتلال الصهيوني الى جانب دورهم الاستراتيجي في مرحلة ما بعد التفاهمات والاتفاقيات الدولية المقبلة في النظام العالمي الجديد:
.. مهزومون لا يريدون الاستسلام فيتوسلون حصار ايران، ويعرقلون إتمام السيادة السورية، ويستحضرون “الممر/الكوريدور الاقتصادي” الذي من المُفترض أن يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط. ولا يخفى ان هذا الممر يُشكّل نواةً لتحالفٍ اقتصاديّ جديد يهدف لخنق منظومة دول “بريكس” في مهدها، “وتكريس التطبيع بين دولة الاحتِلال الإسرائيلي ودُول الخليج، أو مُعظمها، وتهميش قناة السويس كممرٍّ عالميٍّ للتجارة بين الشّرق والغرب، وإضعاف، وربّما وأد طريق الحرير الصيني (الحزام والطريق)”
.. ومنتصرون من حقهم حصاد النتائج .. ولعلهم جميعا باتوا يدركون أنّ مشروع الرئيس الأسد للتعاون والتشبيك تحول من مجرد رؤية استراتيجية الى أمر واقع .. تذكرون هذا المشروع الذي اقترحه الرئيس بشار الأسد في مطلع العقد الأول من القرن الحالي (أبيض، أحمر، خليج، قزوين، أسود – منظومة البحار الخمس) استثمارا لموقع سوريا الجغرافي، ووضعها في مركز شبكة الطاقة والنقل الإقليمية.. مشروع يضم روسيا وايران وتركيا ومصر والسعودية والعراق وسوريا والجزائر واليمن تكاملا مع اوروبا المتوسطية .. أرادها منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل تعمل بالتفاوض لحل النزاعات وبالتعاون للتنمية والتقدم الاقتصادي ولضمان أمن الطاقة والملاحة .. مشروع يقوم على شراكة استراتيجية في الشرق الجديد!
وماذا عن الممر الشمالي الجنوبي الذي يربط روسيا بالمحيط الهندي عبر إيران وأفغانستان وباكستان، وماذا عن الممر الشرقي الغربي الذي أتت به مبادرة الطريق الواحد الصينية بعد أن يتمّ تنفيذ شبكة سكك الحديد التي توصل البحر الأصفر بالبحر المتوسط!؟ وهكذا تفقد امريكا والغرب السيطرة على الممرّات البرّية والبحرية كما كان الحال خلال القرنين الماضيين خاصة وان روسيا تسيطر على الممر القطبي الشمالي وما يحتويه من احتياطات نفط وغاز ومعادن.
أما “زنوبيا” ملكة تدمر فقد بعثت إلى “بلقيس” ملكة سبأ تبشر الا ذل و لا سل و لا جرب بعد اليوم .. بعد الاف الليالي وليلة في المستنقع اليمني، ولم تهتز لهم، في معسكر الشر الصهيواوروبيكي، قصبة .. وبعد ان تهيأ لهم ان خبرتهم في المستنقع الفيتنامي قد أكسبتهم بعض المناعة فعمدوا الى سحائب الغزو لتشوي اليمنيين بأكثر من عشرات أضعاف ما ألقي على هيروشيما .. بعد كل ذلك ومعامل الموت ومطاحن العظام تدور حتى في القبور وكأننا قد عقدنا صفقة استراتيجية مع عزرائيل – وهنا أعود واستدعي البردوني:
الـحاكمون و”واشـنطن”حـكومتهم //
الـقـاتلون نـبوغ الـشعب تـرضيةً //
لـلـمعتدين ومــا أجـدتهم الـقُرَب //
بعد ذلك كله، أُصر ان السُحب ستحبل من إرعاد أهل اليمن وهم يرسمون المعادلات الجديدة، واذكر أنهم أصل العرب .. وهم رواد بناء ناطحات السحاب والسدود حيث كان الظهور الأول لناطحات السحاب في العالم وفي التاريخ في مملكة سبأ اليمنية!
وبعد، تسألني عن صنعاء يا ولدي؟ “مليحة” طردت “عاشقيها: السل والجرب”، ونفّذت حق العودة الى السعادة – وعاد اليمن السعيد سعيداً! وسبق لنا ان قُلْنَا ان “اعادة الأمل” تكون باعادة فلسطين .. ففلسطين هي الأمل الذي نرجو اعادته ..
“لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” [يوسف – 111] .. ” فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ” [الحشر – 2].. “لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [المائدة – 100]!
فهل نعمل على تعميم “اللحظة الحوثية” ونشرها في المنطقة “عَسَىٰ أَن” نكُونَ “مِنَ الْمُفْلِحِينَ” [القصص – 67]!؟
لتتكثف جهودنا ولتكن بوصلتنا في الاتجاه الصحيح .. نحو فلسطين .. باطل جهادنا وملغى كأنه لم يكن اذا انحرف عن بيت المقدس وفلسطين من النهر الى البحر، ومن الناقورة الى ام الرشراش!
اما انت يا “ديانا” فإليك يأتي مشيًا على قدميه: التاريخُ ومعه الحاضرُ ونسائمُ البحرِ وأخبارُ البطولات، وأصداءُ عويلِ الصهاينة تحت نيران الشهيد لتبق نبوئتك “اسرائيل الى زوال” وشماً في الذاكرة!
الدائم هو الله، ودائم هو الأردن العربي، ودائمة هي فلسطين ..
نصركم دائم .. الا أنكم أنتم المفلحون الغالبون ..
كاتب عربي أردني