فجر اليوم //
تصرفات أمريكا تجاه العالم اليوم تشبه تصرفات بريطانيا وفرنسا من أول خمسينيات القرن العشرين وحتى منتصف ستينياته، لم تستوعب الدولتان الاستعماريتان في ذلك الوقت أن زمانهما قد انتهى، وكان العدوان الثلاثي الذي اقترفتا جريمته ضد مصر بالتحالف مع إسرائيل آخر ما في جعبتهما، لم تمض عشر سنوات بعد ذلك حتى كانت معظم مستعمراتهما في إفريقيا وآسيا قد تحررت من سيطرتهما.
حالة أمريكا اليوم تشبه تلك الحالة تماماً، هذا ما يؤكده ديديه بيون الأكاديمي الفرنسي ونائب مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس في كتابه (نهاية الغربنة).
تخبط أمريكا في الآونة الأخيرة وشراسة ردود أفعالها تجاه فلسطين وتبنيها الكامل للمجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، واحتشادها وتحشيدها الكبير قبل ذلك ضد روسيا، ثم اقترافها بالأمس عدواناً سافراً على اليمن بالتحالف مع بريطانيا ليس إلا تعبيراً عن الشعور بالتهاوي.
لقد فشلت منظومة القيم العالمية التي روجت لها أمريكا عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، سبب فشل منظومة القيم الأمريكية كان يكمن دائماً في عدم إعطاء أي اعتبار لوجهات نظر معظم شعوب العالم فيها، لم تفكر تلك المنظومة في احترام خصوصيات الشعوب، ولم تمنح نفسها فرصة لسماع صوت الآخر، لم تعتبر مليارات البشر الذين يعيشون في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية شركاء في عالم واحد، أو تطلعات إنسانية يمكن من خلالها البحث عن صياغة جامعة تجد فيها الأمم الأخرى شيئاً من قيمها أو ملامح من رؤيتها للوجود.
منذ عام 1990م قررت أمريكا أن يكون كل شيء أمريكياً، ولم يكن لدول أوروبا الموالية لها إلا هوامش حضور تابع وباهت.
تحولت أمريكا إلى غول كبير يبتلع اقتصادات العالم ومقدراته، بموازاة ذلك عربدت أساطيلها في جهات الأرض الأربع؛ تشن الحروب، وتتدخل في بلدان ذات سيادة، تحاصر شعوباً وتجوعها، وتسقط حكومات وتحاكم وتسجن، وصارت منظمة الأمم المتحدة والهيئات التابعة والموازية لها؛ الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقصادي والاجتماعي، مجلس الوصاية، محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية وغيرها مجرد أذرع للنفوذ الأمريكي تمارس من خلالها الوصاية على العالم.
ومن خلال ذلك كله أشاعت أمريكا الفوضى في أرجاء الكرة الأرضية، دمرت شعوباً، وأفقرت شعوباً، وكأنها بطريقة أو أخرى تقوم بإنتاج نسخة مكبرة ومتحورة مما فعلته بالهنود الحمر.
لقد فات أمريكا أن الشعوب لا تموت، وأن العالم ينتج ميكانيزمات دفاع تتناسب مع احتياجاته، وأن أي شكل للسيطرة على العالم في هذا الزمان لا يمكن أن تتعدى جيلاً واحداً.
كان في كعب أخيل الأمريكي ثلاث نقاط ضعف، الأثرة والأنانية، عدم قراءة التاريخ جيداً، وسياسة الكيل بمكيالين.
فيما يتصل بالأثرة والأنانية؛ حاولت أمريكا أن يكون كل شيء لها، حتى حلفاؤها لم يحصلوا في الغالب إلا على الفتات من الغنيمة العالمية.
وفيما يتعلق بعدم قراءة التاريخ جيداً، لم تعرف أمريكا أن الإمعان في إذلال الشعوب والاستهانة بحقوقها المشروعة، عاملان حاسمان في تأجيج الشعور بضرورة النهوض واستعادة الدور.
أما سياسة الكيل بمكيالين فقد كانت العامل الأكثر فاعلية في انتفاض إرادة ثلثي شعوب العالم على هيمنة أميكا وحلفائها.
كانت سياسة الكيل بمكيالين أكثر تصرفات أمريكا تعرية لمنظومة قيمها المدعاة، وخلال أقل من ثلاثة عقود فهم العالم العقلية الخرقاء التي تقف وراء تلك السياسة، وبالتالي بدأت تعبر عن عدم الخضوع لها ولمنظومة القيم الأمريكية كلها.
وعند مطلع العقد الثالث من الألفية الجديدة، كان قد بدا واضحاً أن بساط الهيمنة يطوى من تحت أقدام أمريكا، شعرنا لبعض الوقت وكأنها تستكين لواقعها الجديد، وهذا ما حدث تماماً لبريطانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية، لكن أمريكا فعلت مثلهما تماماً، إذ ما لبثت أن عادت لتحاول بسط نفوذها عبر سلسلة إكراهات غير قانونية، مستعملة نفس سياستها الفاشلة المفضوحة: الكيل بمكيالين. ووصل تعبيرها عن انتهاج سياسة الاكراهات ذروته بالانحياز الكامل للجرائم الإسرائيلية ودعم تجبرها على جميع المستويات سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؛ لكن هيهات فقد انفرط العقد، وبدأت شمس الهيمنة المتغطرسة بالغروب.
وإذا كان تورط أمريكا اليوم في عدوان غاشم وغير قانوني على اليمن يعد من أكبر المؤكدات على نهج سياسة الكيل بمكيالين، فإن هذا العدوان نفسه سيكون من أهم أسباب نهاية الزمن الأمريكي، فاليمن أبيّة على الاخضاع، لا تسكين وتنهزم، وما أكثر الأدلة على ذلك، غير أن تداعيات هذا العدوان الأرعن لن تتوقف على مقاومة اليمنيين له، تداعيات العدوان ستكون أوسع بكثير وستقول شعوب كثيرة كلمتها في وجه العربدة الأمريكية البريطانية. وفي وجه الجرائم الإسرائيلية أيضاً. وإن غداً لناظره قريب.