عطوان : خرائط نِتنياهو الاستفزازيّة للشّرق الأوسط تأتي أحلام يقظة وتكريمًا للمحذوفين مِنها.. كيف يَسكُتُ العرب على هذه الوقاحة؟ ومن يُريد التّطبيع مع دولةٍ فاشلةٍ على حافّة الانهِيار؟ ومن هو حتّى يضع “فيتو” على الطّموحات النوويّة السعوديّة؟

فجر اليوم //

عبد الباري عطوان

لو كانَ هُناك عربٌ “أقحاح” يحترمون أنفسهم وإرثهم التاريخي العربي والإسلامي العريق، لانسَحبوا من قاعة الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة أثناء خطاب بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وغادر زُعماؤهم ومندوبوهم الذين شاركوا بحُضور اجتِماعات دورة الجمعيّة العامّة مُلوّحين بخرائطٍ للشّرق الأوسط تحتلّ فِلسطين التاريخيّة مكانها، وبأحرفٍ كبيرة، كرَدٍّ على خريطةِ نِتنياهو التي لوّح بها بكُلّ غطرسةٍ وغُرور، لِما سمّاه بـ”الشّرق الأوسط الجديد”، ولكن عرب “سلام أبراهام” وغير “سلام أبراهام”، لم يفعلوا، ويبدو أنهم لن يفعلوا، بل ربّما صفّق بعضهم لنِتنياهو علانيّة، وبعضهم الآخَر حَبَسَ التّأييد والفرحةَ في قلبه.

نحنُ نعيش هذه الأيّام أكثر المراحل رداءةً في تاريخنا، وبات مُعظم حُكّامنا مِثل الماء، بلا لون أو طعم، أو رائحة، ودُونَ الحدّ الأدنى من الكرامة، وليس لهم أيّ علاقة بأصلهم، أو إرثهم، مُجرّد خشبٍ مُسنّدة.وقاحة نتنياهو في المُقابل فاقت كُلّ الحُدود، وكان يتحدّث، وهو المنبوذ، والمُطارد من مُعظم مُستوطنيه، وكأنّه الحاكِم الفِعلي للمِنطقة العربيّة، ومالك قرارها ورسم خرائطها وتقرير مصيرها ومُستقبلها، وهو الذي يتنفّس كذبًا، ولا يستطيع إزالة خيمة في شِمال مزارع شبعا اللبنانيّة، أو إرسال دبّابة لاقتِحام قِطاع غزّة، أو حتّى اغتيال عصفور في بيروت، خَوفًا ورُعبًا من النّتائج التي ستترتّب على ذلك.

***

خريطة الشّرق الأوسط الجديد التي لوّح بها نِتنياهو من على مِنبر الأمم المتحدة، ضمّت دُولًا مُطبّعة مِثل مِصر والأردن والسودان والإمارات والبحرين، وأُخرى غير مُطبّعة، أو يُقال إنها في طريقها نحو التّطبيع مِثل المملكة العربيّة السعوديّة، ونَحمَدُ الله أنها استثنت دُوَلًا مركزيّة ومُشرّفة بمواقفها الرّافضة لكُلّ أشكال التّطبيع مِثل العِراق وسورية واليمن وسلطنة عُمان ولبنان، وهذا وسامٌ وطنيٌّ كبيرٌ على صدر شُعوبها وحُكّامها.خرائط نِتنياهو “تهريجيّة” وتعكس طُموحات العُنصريّة الإرهابيّة، ولا ننس وقوفه في المكان نفسه في أيلول (سبتمبر) عام 2018، وتلويحه بالقنبلة النوويّة الإيرانيّة، وتهديده بتدمير البرامج النوويّة والصاروخيّة الإيرانيّة، ومثلما انتهت هذه الرّسوم الكاريكاتوريّة المُضحكة “النتنياهويّة” للقنبلة النوويّة الإيرانيّة في صُندوق القُمامة، ستنتهي خريطته للشّرق الأوسط الجديد في قُعرِ المكان نفسه قريبًا جدًّا.طالما أننا نتحدّث عن الخرائِط فلا بدّ من الإشارة في هذه العُجالة إلى

نِتنياهو يُخطّئ العرب لأنّهم كانوا يشترطون تلبية مطالب الشّعب الفِلسطيني في إقامة دولته المُستقلّة على أرضه، ويتباهى بأنّ التّطبيع تمّ دُونَ الالتِفات إليها، وينصح بإسقاط “الفيتو” الفِلسطيني عن أيّ اتّفاقات سلام، فمن غير الجائِز حسب رأيه “أن يمنع 2 بالمئة من العرب تحقيق 98 بالمَئة منهم السّلام” مع دولة الاحتِلال.

ليس الشّعب الفِلسطيني الذي يضع “فيتو” على أيّ اتّفاقٍ تطبيعيٍّ مع دولة الاحتِلال، وليته يفعل، وإنّما 100 بالمِئة من الشّعوب العربيّة الشّريفة التي تفرض هذا “الفيتو”، وتعتبر التّطبيع خيانةً، ومن وقعّوا، أو سيُوقّعون هذه الاتّفاقات لا يُمثّلون شُعوبهم، بل يُسيئون إليها وإرثِها الحضاريّ الإسلاميّ العريق، وما حصل من رفضٍ واحتقارٍ ونبْذٍ عفويٍّ للإسرائيليين، من قِبَل الشّعوب العربيّة على هامِش مُباريات نهائيّات كأس العالم في قطر، واستِطلاعاتُ رأيٍ أجراها معهد الشّرق الأدنى الأمريكي الدّاعم لإسرائيل حول التّطبيع في البحرين والإمارات، تكشف عن انخفاضِ التّأييد إلى أكثرِ من النّصف في غُضونِ عامٍ فقط، وهذه بعض الأدلّة في هذا الصّدد.

نتنياهو الذي يُريد إسقاط “الفيتو” الفِلسطيني، غير الموجود للأسف، يُبيح لنفسه استِخدام “فيتو” إسرائيلي بمنع المملكة العربيّة السعوديّة من امتِلاكِ برنامجٍ نوويٍّ سلميٍّ، وفي الخِطابِ نفسه، إلّا إذا كانَ تحت إشرافٍ إسرائيليٍّ مثلما قال في أحاديثه الصحافيّة الأخيرة، وقوله “إن لا حاجة للسعوديّة للتزوّد بأنظمةٍ نوويّةٍ كشَرطٍ للتّطبيع مع حُكومته”، ويتناسى أن كِيانه يملك 200 رأس نووي، ولا يسمح لخُبراء الوكالة العالميّة للطّاقة الذريّة من مُجرّد الاقتِراب من مفاعل ديمونا الذي أنتجها، فمن هو حتّى يُقرّر ويَفرِض شُروطه على السعوديّة الدّولة رقم 17 كأقوى وأسرع اقتصاد نموًّا في العالم.

نتمنّى، ونُصلّي، أن لا تُطبّع المملكة العربيّة السعوديّة مع دولة الاحتِلال، وتُقدّم لها هذه الجائزة الكُبرى، وترضخ للشّروط الأمريكيّة والإسرائيليّة، لأنّها أكبر وأقوى من دولة الاحتِلال التي تقترب من نهايتها بسُرعةٍ قياسيّة، وتشهد حاليًّا تهديدًا وجوديًّا لبقائها بفِعل المُقاومة الفِلسطينيّة المُتصاعدة، والالتِفاف الشعبيّ العربيّ حولها.

***

التّطبيع، ومع دولةٍ فاشلة، فاشيّة، تحتلّ أراضٍ عربيّة وفِلسطينيّة، وتقترب من نهايتها، ويُريد الغرب التخلّص من عبئها الثّقيل والمُنفّر، لا يخدم المملكة ولا يُشرّفها، وربّما قد يُشكّل خطرًا على أمنِها واستِقرارها، ونسْف مكانتها القويّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وهي المكانة التي تعزّزت في الأعوام القليلة الماضية، وبات أكثر من ملياريّ عربي ومُسلم يرون في قِيادتها الأمل الأكبَر في استِعادة هذه الأمّة لكرامتها، خاصَّةً في ظِلّ تراجع هذه الزّعامة والهيمنة الأمريكيّة والغربيّة، وقُرب هزيمتها الحتميّة في الحرب الأوكرانيّة، لمصلحةِ عالمٍ جديد مُتعدّد الأقطاب بزعامةِ المِحوَر الصيني- الروسي.

دولة الاحتِلال مُحاطةٌ بغابةٍ من الصّواريخ والمُسيّرات، وتفتقد إلى الأمنِ والاستِقرار داخليًّا وخارجيًّا، وباتَ أكبر قادتها ومُفكّريها لا يتوقّعون أن تُكمِل عامها الثّمانين، فلماذا يُلقي بعض العرب طوقَ النّجاة، ويحجّون إليها؟في الماضي كان العرب وغيرهم يذهبون إلى تل أبيب اعتقادًا منهم أنّها البوّابة الأوسع للوصول إلى قلب واشنطن ورَضاها وأموالها، الآن ما يَحدُث هو العكس، ورأينا بايدن يذهب زاحِفًا على بطنه إلى الرياض مُستَجدِيًا سماحها، وهو الذي توعّد بعزلها، ونبْذ قِيادتها، ولعلّ أحوال الدّول العربيّة المُطبّعة المُزرية التي وضعت كُل بيضها في السلّة الصهيونيّة الأمريكيّة درس يجب الاستِفادةُ منه، فمتَى يَصحُو العرب ويعودون إلى رُشدهم؟

Exit mobile version