فجر اليوم//
صدر الأسبوع الماضي عن “دار زمكان” في بيروت كتاب الدكتور فيصل جلول “حين خرج الماء من صخر الصوان. علي عبد الله صالح 1942 ـــــ 2012” خص الكاتب صحيفة “راي اليوم” بهذا التعريف المقتبس من مقدمة الكتاب. معلوم ان جلول هو من بين قلة من الاعلاميين العرب المختصين بالشؤون اليمنية.
كان ينبغي ان يصدر هذا الكتاب مُكَثفاً في بداية الالفية الثالثة، عندما كنت اعمل في مؤسسة الحياة السعودية وذلك ضمن كتابي المعروف ” اليمن ــــ الثورتان، الجمهوريتان، الوحدة” الصادر في طبعته الأولى عام 1999 عن دار الجديد في بيروت وفي طبعته الثانية عام 2000 عن الدار نفسها وهو نافد اليوم.
في ذلك الكتاب الذي يغطي زمن اليمن السياسي بين 1962 و1994، اعتمدت تحقيباً للسيرة السياسية اليمنية بالاستناد الى عهود الرؤساء اليمنيين الذين تعاقبوا على الحكم شمالا وجنوبا خلال تلك الفترة. وكان عليّ ان انشر سيرة الرئيس علي عبد الله صالح وسيرة نائبه علي سالم البيض كما نشرت سير الرؤساء السابقين.
اعترضتني صعوبات جمّة منذ مقاربتي الأولى لهذه السيرة، ذلك ان الرئيس الذي عرفته عن قرب وحمّلني ـــــ بعيدا عن جهازه الدبلوماسي ـــــ رسائل و”معاتبات” انقلها الى زعماء وشخصيات مهمة داخل وخارج اليمن، لا يحب الحديث عن نفسه، اما سيرته الرسمية المنشورة فهي تتضمن اشارات وتواريخ مختصرة، رقمية، باردة لا تتيح الاحاطة بظروف انتقاله من قاعدة المجتمع الى قمة الدولة ، فيما شطر من المحيطين به وليس الكل، يفضلون الحديث الدعاوي الرسمي المتحفظ، بل عبارات المديح والتقريظ الثقيلة الظل، والبعض الاخر لا يحب الافصاح عن هويته والاشارة اليه كمرجع جدير بالثقة يمكن اعتماده حجة في حكم او مقاربة او استنتاج.
بالمقابل لا يمكن الاستناد حصرا الى روايات هجومية ومعادية يتناولها خصوم الرجل ويُرَاد منها شيطنته والقاء النتائج السلبية للتاريخ اليمني المعاصر على عاتقه. الأمر الذي اضفى على مهمتي صعوبات جدية، تمكنت من تذليل بعضها بمساعدة الجنرال علي محسن الأحمر الذي يُعتبرُ واحدا من بين قلة من اليمنيين الذين عرفوا الرئيس صالح عن كثب وعاشوا معه منذ الطفولة الى ما يسمى ب الربيع العربي، (قبل القطيعة في العام 2011 التي تسببت بأذى كبيرا للدولة اليمنية).
كانت للرئيس صالح في حينه علاقات وثيقة للغاية مع الجنرال الأحمر، فاستندت اليه في تحضير القسم الأول من سيرة الرئيس الشخصية وعرضت الفصل على أستاذ جامعي يمني ليساعدني في ضبط بعض الاسماء والتواريخ والمعلومات فما كان منه، سامحه الله، الا الاتصال بالمحيطين بالرئيس وأعاد لي الفصل مدججا بملاحظات اعتراضية من نوع ” عدم جواز التطرق الى حياة الرئيس الخاصة” علما ان المعلومات “المشتبهة” مسنودة الى الجنرال الأحمر والى رئيسي الوزراء الراحلين عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الارياني واخرين.
عرضت الامر على المقربين من الرئيس وحدثته شخصيا عما جرى، فأحالني الى شخصية سياسية قريبة منه. طيّبَ الرجل خاطري وقال لي ان الرئيس لا يحب الكاذبين وان الصحفي الفلاني الذي كتب سيرته بتملق ومنهج دعاوي يستحق كتابه الاستقرار في سلة المهملات، واكد لي هذا الشخص المحترم أنه يفضل اسلوبي ومنهجي لكن غالبية المنتمين الى البيئة الرئاسية تحبذ نصا مصاغا بأفعال التفضيل واوصاف المبالغة.
حملني اللقاء مع هذه الشخصية الهادئة والعقلانية على التخلي عن فكرة السيرة بانتظار فرصة أخرى، لذا غابت سيرة الرئيس علي عبد الله صالح عن كتابي المذكور وغابت أيضا سيرة نائبه علي سالم البيض فالحديث عن الوحدة والانفصال لا يتم بازدواج المعايير.
استعدت فكرة الكتاب بعد اغتيال الرئيس علي عبد الله صالح في ديسمبر ـــــ كانون الاول عام 2017. كنت في هذا الوقت قد جمعت ملاحظاتي واستنتاجاتي في دفاتر مستقلة لكنني لم انكبّْ على العمل الا في العام 2019 وصولا الى العام 2023 تاريخ صدور هذه السيرة، التي سبقتها سِيَرٌ لنائب الرئيس علي سالم البيض وجارالله عمر ونصوص صحافية حول الشيخ عبد الله الأحمر وعبد العزيز عبد الغني ويحيى المتوكل وذلك ضمن مشروع كنت اعده حول النخبة السياسية اليمنية.
التقيتُ الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للمرة الأولى في العام 1987. اتصل بي الدكتور عبد الكريم الارياني قبل ساعتين من اللقاء” لا تتحرك من الفندق من الان فصاعدا. سأمرُّ عليك ونخرج معا في سيارتي” اتجهنا الى منزل الرئيس الشخصي، انتظرنا دقائق في صالون قوسي الشكل او هكذا بدا لي، ثم جاء الرئيس مرحبا بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد ” كيف حالك؟ كيف رأيت اليمن؟” اقتصر اللقاء على الجنرال عبد الله البشيري وربما الجنرال القاسمي ما عدت اذكر جيدا. كان مهتما بمعرفة نتائج المصالحة الفلسطينية ــــــ الفلسطينية في الجزائر التي شاركت بتغطيتها ونشرت تفاصيلها في مجلة “اليوم السابع”. كان بعض اطفال الرئيس يلعبون بالقرب منا، يركضون في المكان ويحدثون ضجيجا. لم يعبأ بهم. بدا الامر طبيعيا بالنسبة له وللحاضرين.
من جهتي كنت اكتشف للمرة الأولى مسؤولا سياسيا لا يقيم وزنا للبروتوكول الذي يرسم هرمية وحواجز وحدود ونمط سلوك رجل السياسة. طلبت منه اجراء مقابلة خاصة للمجلة قبل سفري وافق على الفور وبدا مستغربا عندما اعتذر مني الارياني بقوله ان ما تبقى من اللقاء مخصص لبحث قضايا حكومية. فانصرفت على وقع عبارة الرئيس ” ملتقيين”
في هذا اللقاء طرحت السؤال الذي رافقني أكثر من ربع قرن. كيف صار هذا الرجل رئيسا للجمهورية مختلفا عن الرؤساء الذين قابلتهم، بل القسم الأعظم من رجال سياسة التقيتهم وكنت اسخر من حرصهم الشديد على تعظيم البروتوكول واتقزز من جملهم الخشبية وعباراتهم الفارغة.
لم يطلب مني علي عبد الله صالح ان اكتب سيرته او كتابا عنه ولعله كان يحتقر المنافقين: قال لي ذات يوم ممتعضا من أحد رجال السياسة: انظر الى ابتسامته الصفراء. لقد انقذته من الوحل في المرة والأولى والثانية والثالثة وفي كل مرة كان يعود للتآمر عليّ “
نعم لم يطلب مني علي عبد الله صالح ان اكتب شيئا، كان يقول لي باللهجة اليمنية ما معناه ” هذا البلد بلدك لك ان تفعل ما تشاء كما في بلدك”.
هذا الكتاب هو ما شِئْتُ وما أتمنى ان يعيد الى علي عبد الله صالح ما يستحقه في تاريخ بلده السياسي المعاصر. ولعل افضل الختام ما ذكره الراحل عبد الله صالح عفاش. لعله لم يخطئ في قراءة مستقبل ابنه الأصغر، الذي خرج حقا من صخر الصوان ولعب أدوارا تاريخية في بلاده، بين جبل نقم في شرق صنعاء وجبل عيبان في غربها.