تسليح الشعور.. هكذا تُحوّل بيئة المقاومة الحزن إلى أداة كفاح
مقالات #فجر_اليوم //
_الكاتب: سجود عوايص خلال مراسم تشييع سيد شهداء الأمة السيد الشهيد حسن نصر الله وخليفته، خرج مئات الألوف، فيهم من الفتية والشباب والعجائز، وفي قلوبهم من المبايعة والوعد والثبات على العهد، ما يغمر حزنهم وألمهم على الرحيل والفراق.
على طول مسيرات التشييع وأكفان الشهداء التي حُملت على أكف الرجال والنساء، على اختلاف الأزمنة والأمكنة، لن تجد مسيرةً واحدةً أبدًا في أي ميدان مقاومة من دون مبايعة وتجديدٍ للعهد والقسم والطريق، ووعود بالمواصلة حتى التحرير، ذلك “ريتمٌ” لا تخطئه العقول ولا القلوب، ويُجمع عليه القاصي والداني أمام دماء جميع الشهداء بدون استثناء.
يقول الشهيد باسل الأعرج إن “المقاومة جدوى مستمرة”، ربما كان يُشير الفتى في ذلك إلى مردودها المعنوي في أوصال شعبها، وربما هو إدراكٌ متوازٍ إلى أن ما يعتبره المحتل “خسائر” إنما هي مراكمة مستمرة للعمل الثوري وخبراته، وليقين عزم المقاومة ذاته، فدماء السابقين التي تنزف في سبيلها إنما تُعبد طريق اللاحقين، ليس في ذلك “ربما”، إنما كُله يقين لا شك فيه.
ومما يُذكر عن أثر استشهاد المهندس الأول في كتائب الشهيد عز الدين القسام، يحيى عياش، أن إخوانه في المقاومة تميزوا بنوعٍ جديدٍ من العمل المقاوم، ما زال حاضرًا حتى اليوم، عُرف بـ”الثأر المقدس”، وأن هذا العمل الذي هو قديمٌ قدم المقاومة، وجديدٌ في جدة ثأرها، تُرجم إلى عمليات في عمق الاحتلال قد صيغت ببصمات العياش وخبرته التي نقلها إلى تلاميذه في صنع العبوات التفجيرية. قاد سلسلة العمليات حينها القائد القسامي حسن سلامة، وبتفويض من قائد كتائب القسام محمد الضيف، وقد انطلقت بعد الأربعين من استشهاده، لتوقع نحو 46 إسرائيلياً وجرح نحو 163 آخرين، تزامن ذلك مع أفعالٍ ثورية أخرى اعتُبرت امتدادًا لخط العياش في الفترة نفسها، لكنها لم تحظ بالتنظيم والتبويب ذاته.
اليوم ما زال خط العياش حيًا، وما زال نسق العمليات التفجيرية رائجًا وشديد الحيوية، في الأسبوع الأخير اكتُشفت عبوات تفجيرية في ثلاث مناطق داخل عُمق الكيان، وقبلها انفجرت شاحنةُ يقودها استشهادي من الضفة الغربية، وفي الحالتين استذكر الإعلام الإسرائيلي العياش، قائلًا: “طيف العياش يجول في تل أبيب”، و”العياش يُبعث حيًا”.. فمن قال لهم أن الثائر قد يموت؟
“إنا على العهد”
طوال حرب المقاومة في غزة ولبنان استهدف الاحتلال قادة المقاومة وأعمدته، وعمدوا إلى توثيق استهدافهم ونشره للإشارة إلى “يدٍ طولى” لهم في الوصول إلى أعدائهم، كان من أولى الضربات اغتيال الشيخ صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، ومن ثم اغتيال وسام الطويل “الحاج جواد” مسؤول التصنيع في حزب الله، تلاه اغتيال طالب عبد الله “الحاج أبو طالب” قائد وحدة نصر في الحزب، ولحقه اغتيال فؤاد شكر المسؤول العسكري الأول في الحزب، ومن ثم اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، تلاه اغتيال إبراهيم عقيل عضو المجلس العسكري في حزب الله، واغتيال السيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب وخليفته السيد هاشم صفي الدين.
وفي جميع الاستهدافات كان خطاب المقاومة واحدًا لا يحيد، وكان خطاب جمهورها ثابتًا لا يتغير، ينطلق كلاهما من حزن ثوري يجدد فيها عزيمته ومتراس نضاله، فلديه اليوم مبررات ودوافع أخرى لإكمال مسيرة مقاومته حتى نهايتها، ولديه أجيالٌ عليها أن تقف في وداع القادة لتحتضن اللحظة وتعد بمواصلة الطريق.
على مدى أيام الحرب خرج المقاومون على جميع الجبهات يطلقون قذائفهم في وجه المحتل وهي تحمل لعنة الشهداء والقادة، “لعيونك يا شيخ صالح”، “إلى روح السيد الشهيد حسن نصر الله”، “إلى روح الشهيد إسماعيل هنية”، بينما أخرج الجمهور هباته عن أرواحهم، كُرمى لدربٍ لم يخطؤوه.
بالأمس، وخلال مراسم تشييع سيد شهداء الأمة السيد الشهيد حسن نصر الله وخليفته، خرج مئات الألوف، فيهم من الفتية والشباب والعجائز، وفي قلوبهم من المبايعة والوعد والثبات على العهد، ما يغمر حزنهم وألمهم على الرحيل والفراق، خلال ذلك حلق الطيران الحربي الإسرائيلي على ارتفاعٍ منخفض في سماء بيروت، بينما تناقل إعلامه صورًا لسماءٍ تسطو عليها الطائرات الإسرائيلية، وأرشيفًا لحممٍ تُصب على ضاحية بيروت الجنوبية، مباهاة بالقدرة على الوصول إلى أعداء الكيان وإفنائه.
الألوف الذين خرجوا خلف السيد الشهيد لم تُزعزعهم طائرات المحتل، وإنما رأوا فيها وجهًا آخر من وجوه كرامة الشهيد وعزته، ذلك الذي لطالما استفز الكيان خلال حياته، واليوم يستفز طيرانه وإعلامه خلال تشييعه، بالنسبة لألوف غطاها الحُزن ودثرها الفُراق، لم يكن أزيز الطائرات سوى تحية عسكرية يؤكد بها المحتل مهانته، ويؤكد بها السيد إرثه وميراثه المقاوم، فيما يواصل محبوه مسيرهم على العهد نفسه الذي مضى فيه سيدًا وشهيدًا.
عن رد الفعل الجماهيري هذا يؤكد الباحث عنان الحمد لله أن “الثأر الذي نودع الشهداء به، إنما هو حافزٍ لما هو كامن، ونظامٌ قائمٌ بذاته يُرهب العدو ويضعه في حالة قلق هدّام دائمة، ذلك أن مجرّد تموقع فكرة الثأر ومواصلة الدرب نفسه ضمن المنظومة الفكرية الشعبية/الحزبية، فهي قادرة على جعل العدو في حالة قلق هدّام دائم يقطن في هواجسه وما يترتب على ذلك”.
لا يضع الباحث حدودًا زمنية لمرحلة ما بعد الرحيل وأوان الثأر، بل يؤكد أن الظروف الموضوعية قد تحول أحيانًا دون تحوله إلى نمطٍ جماهيري، لكنها لا توقف موقعه كمحطّم للسجون المعرفية واللامعقولية المقيّدة للممارسة، وبينما يُمكن إسقاط نصه على جميع الخسارات الكُبرى في صفوف المقاومة، فإن نتائجه أيضًا يمكن إسقاطها على الواقع الحالي.
فمن رمزية الشهيد المؤثر بفعله، الذي كان يعيش في وضعٍ أكبر من الجميع، إلى حالة الارتباك التي تركها غيابه، والأحزان التي كانت أكبر من التصور، والنقاشات التي رفضت تصديق الحدث، والفقدان الذي تجاوز فيه المقاومون الحالة الخاصة لأمنهم، نحو الثأر كحالةٍ جماعية مجمعٍ عليها لتحطيم المحيط الذي سوّر به المُحتل جمهور المقاومة، بممارسة واعية لأثر الفقدان وعمق الضربة، “ذلك أنها كادت أن تشلّ الجميع بدون استثناء خاصة الذين عاشوا مع الشهيد”.
أن نبكي فنروي أرض المقاومة
مما يُروى عن الشهيد رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى في مدينة طولكرم، والمعروف بصاحب الردّ السريع، أن توجهه من العمل التعبوي إلى العسكري لم يكن إلا فتيلًا لمعايشته حادثة اغتيال الدكتور الشهيد ثابت ثابت مسؤول حركة فتح في طولكرم، فقرر بناءً عليها تشكيل مجموعات الشهيد ثابت ثابت التي كانت سابقةً لكتائب شهداء الأقصى.
ومما تذكره عائلته أن عمله المقاوم امتد ثأرًا لطفلة استشهد والدها، فكما تروي شقيقته: “كانت العائلة تجلس أمام التلفزيون، وعرض آنذاك صورة لطفلة صغيرة عمرها 6 سنوات، كانت تبكي أباها الذي قتله الجنود الإسرائيليون في قرية شويكة المجاورة لطولكرم”. وتضيف: “إن رائد تأثر بمشهد الفتاة حتى البكاء، وأقسم لها وهي على شاشة التليفزيون بأن ينتقم لأبيها، ونفذ في ذات الليلة عملية قَتَل فيها مستوطناً وجرح آخرَ بحالة خطيرة”.
حالة الثأر هذه التي لطالما كانت دافعًا لعملٍ متواصل، استجلبت في كثيرٍ من الأحيان تقييمًا سلبيًا للمقاومة بوصفها رد فعل أكثر منها فعلًا قائمًا بحد ذاته، وأنها تفتقد محركها الذاتي، فيما اعتبرها آخرون تقتات على الدماء والموت لتغذيتها، وفي ذلك تدليسٌ للفعل المقاوم الذي أساسه وجود الاحتلال، وانتفاؤه بانتهاء الاحتلال.
في ذلك أيضًا تجاهل لقيمة العمل المقاوم كاسترداد روحي للأرض الحبيسة والراحلين من الشهداء، وكتأكيد على ميراثهم وبقائهم في مقابل تشتت المحتل وضياعه، وكما أن التاريخ يُبنى بالتراكم، والعلم يُبنى بالخبرة، فالمقاومة تُبنى بالثأر وعليه، وكم من عائلةٍ قدمت الشهيد تلو الشهيد ثأرًا ونصرًا.
لا يقتصر ذلك على الفعل العسكري، بل يتعداه إلى كل ما يخلد الشهداء ويحفظ كينونتهم فينا لأجيال، عن هذا يروي الموزع الموسيقى محمد ترمس قصة نشيد “عندما حضنتني بالأمس يا أبي”، وهو نشيد أطلقته المقاومة في مرحلة مبكرة جدًا 1993، والذي جاءت فكرته عندما كان يعمل مدربًا في الأندية الفنية الخاصة بمؤسسة الشهيد، والتي يستفيد منها أبناء الشهداء.
ومما يرويه الموزع أنه سمع حينها طفلة تحدّث رفيقتها عن اعتيادها الاستيقاظ على احتضان والدها وتقبيله لها صباحاً قبل ذهابه إلى عمله الذي لا تعرف عنه الشيء الكثير، فهو مهندس، ووالدتها كانت تقول لها إنه ذاهبٌ إلى أحد مواقع البناء، وتقول الطفلة لرفيقتها إن والدها لم يكن يعود من عمله إلا وقد نامت من جديد، ليحتضنها ويقبّلها مجدداً، وأنه ودّعها للمرة الأخيرة بهذه الطريقة، لكنه لم يعد في اليوم التالي، ولا الذي تلاه، واستمر غيابه أربعة أيام متتالية، قبل أن يأتي – من طرف المقاومة – من يُعلم العائلة بخبر استشهاده، فتدرك للمرة الأولى أن والدها كان مقاوماً.
ما لبث حديث الطفلة أن أيقظ عزم الموزع الموسيقى فرفع فكرة نشيدٍ عماده قصتها إلى إدارة “مؤسسة الشهيد”، ليظهر النشيد مع الشريط المصوّر الخاص به، عبر تلفزيون المنار، ثم ليغدو أحد الأعمال الخالدة والأيقونية للمقاومة وشهدائها وأبنائهم، وشكلًا آخر من أشكال إنتاج الحزن الثوري لمقاومة متجددة عابرة للأجيال تحفظ إرثها ووعدها.
يقول الشهيد فتحي الشقاقي: “يا أهلي هاتوا الملح حتى يبقى حياً هذا الجرح، لن أغفرها لك، لن أغفرها لك، تلعنني أمي إن كنت غفرت، تلفظني القدس إن كنت نسيت”. وفي خطابه بيوم الشهيد في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2021، جدد السيد الشهيد حسن نصر الله عهده للشهداء بمواصلة الطريق قائلًا: نعاهد أرواحهم الطيبة والزكية على مواصلة الطريق الذي شقوه بدمائهم، سنمضي على طريقكم، بيعتنا لله ولكم”.