فجر اليوم//
نور ملحم
لم تكن الكارثة الطبيعة التي أصابت سوريا وتركيا قد أظهرت أمريكا بوجهها الحقيقي للعالم حيث تجدها تحاول السيطرة وزرع الفتن من خلال التصريحات التي تبثها عبر الإعلام ففي الوقت الذي ينشغل العالم أجمع بالزلازل وبكيفية إيصال المساعدات وفرق الإنقاذ والفرق الطبية لسوريا وتركيا ، نجدها ترمي السم والنزاع في مؤتمر ” الاستثمار التعديني ” الذي عقد هذا الأسبوع في جنوب إفريقيا بهدف الاستفادة من المعادن النادرة نظراً لأهميتها في بناء المستقبل، كونها ركنًا أصيلًا في الصناعات الدقيقة التي يعوّل عليها العالم خلال السنوات القادمة، فما من صناعة استراتيجية حالية تصنَّف على أنها من الصناعات الحيوية في الاقتصاد إلا وفيها عنصر أو أكثر من هذه المعادن.
فرضت تلك المعادن نفسها على خارطة الاهتمام العالمي، بعدما تحولت إلى سلاح استراتيجي بأيدي الصين التي تهيمن على الجزء الأكبر من إنتاجها في حربها التجارية مع الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس الماضية، ما دفع واشنطن وغيرها من البلدان الساعية إلى ضمان مسارات مستقبلها إلى وضع تلك العناصر تحت مجهر الاهتمام، للبحث عن كيفية زيادة إنتاجها والحصول عليها من مختلف الدول المنتجة لها بشتى السبل، كأحد مرتكزات الأمن القومي لتلك البلدان.
جعل الصينيون من أولوياتهم حصر سوق المعادن الحيوية منذ حوالي عقدين من الزمان ودعموا تلك الإستراتيجية بالدبلوماسية العامة الضخمة واستثمارات البنية التحتية في إفريقيا – ومعظمها جاء عن طريق الديون طويلة الأجلولكن استيقظ الغرب على هذه الاستراتيجية بعد فوات الأوان وظل يتدافع منذ ذلك الحين.
وأصبحت تلك المعادن أحد أضلاع صناعة الإلكترونيات في الآونة الأخيرة بعدما ثبت نجاح استخداماتها، ففي جهاز آيفون مثلًا هناك 7 عناصر من المعادن النادرة تدخل في صناعة هذا الجهاز، الأمر كذلك في بطاريات الهواتف والسيارات الكهربائية، وقد كشفت العديد من الدراسات التي أُجريت مؤخرًا عن خطورة وأهمية تلك المعادن التي باتت سلاحًا قويًّا بأيدي من يمتلكها.
ووفق البيانات الرسمية، صدّرت الصين ما يقرب من 408 آلاف طن من المعادن النادرة خلال فترة 2008-2018، أي ما يعادل 42% من إجمالي الصادرات العالمية، فيما احتلت الولايات المتحدة المركز الثاني بصادرات بلغت 9%، ثم ماليزيا والنمسا واليابان، وفي عام 2019 بلغت قيمة الصادرات الصينية من هذه العناصر الأرضية حوالي 400 مليون دولار.
وكما هو الحال في مستويات الإنتاج، جاء الاحتياطي العالمي من المعادن الأرضية وفق الترتيبات ذاتها، حيث تحتل الصين المرتبة الأولى عالميًّا في حجم الاحتياطي بمعدّل 44 مليون طن، بنسبة 38% من إجمالي الاحتياطي العالمي، تليها فيتنام بـ 22 مليون طن بنسبة 19%، ثم البرازيل بإجمالي إنتاج بلغ 21 مليون طن بنسبة 18.1% من الاحتياطات العالمية.
وفي المرتبة الرابعة جاءت روسيا بـ 12 مليون طن وبنسبة 10.4% من الاحتياطي، تليها الهند بـ 6.9 مليون طن وبنسبة 6%، ثم أستراليا بإنتاج بلغ 4.1 ملايين طن ونسبة احتياطي وصلت إلى 3.5%، تليها الولايات المتحدة بإجمالي 1.5 مليون طن احتياطي ونسبة 1.3%، فيما حلّت غرينلاند في المرتبة الثامنة بـ 1.5 مليون طن ونسبة 1.3% احتياطي عالمي، ثم تنزانيا تاسعًا بـ 0.89 مليون طن إنتاج و0.8% نسبة احتياطي، وفي المركز العاشر تأتي كندا بإنتاج قدره 0.83 مليون طن ونسبة من الاحتياطي العالمي قدرها 0.7%.
وبعد تزايُد الأهمية الحيوية لتلك المعادن، اتخذت بعض القوى خطوات حثيثة لتعزيز إنتاجها وزيادة احتياطيها من هذه العناصر، حيث شرعت واشنطن في أعمال التنقيب وخصّصت ميزانيات كبيرة لهذا الأمر، فيما وضعت وزارة الداخلية بعض تلك المعادن على قائمة “الأمن القومي” للبلاد، وعليه كان التحرك على مسارَين، الأول: تقليل الاعتماد على الصين قدر الإمكان بزيادة الإنتاج والبحث عن منافذ إنتاجية جديدة، سواء داخل البلاد أو خارجها، والثاني: مناهضة الصينيين في هيمنتهم على تلك المعادن ومنافستهم لها في المناطق التي تطرق بكين أبوابها للحصول على هذه الكنوز، ومن هنا احتدت المنافسة بين القوتَين في السنوات الأخيرة بصورة لم تشهدها العلاقات بين البلدَين منذ خمسينيات القرن الماضي.
وتتركز العناصر الترابية النادرة في أفريقيا في ناميبيا وجنوب أفريقيا وكينيا ومدغشقر وملاوي وموزمبيق وتنزانيا وزامبيا وبوروندي، وهو ما يفسّر اشتعال التوترات في تلك البلدان خلال السنوات الأخيرة، والتي ترجع في معظمها إلى التنافس على الثروات المعدنية والطبيعية، وسط اتهامات لبعض القوى الخارجية بتأجيج الوضع لتوظيفه لصالح أهداف اقتصادية تتمحور حول الظفر بأكبر حصة من هذا الإنتاج المعدني النادر.
في ضوء ما سبق، يبدو أن القارة الأفريقية على أعتاب مرحلة جديدة من الاستعمار، استعمار يهدف إلى نهب ثروات القارة، لكن هذه المرة نهب ثروات الباطن وليس ما فوق الأرض، لتواجه القارة السمراء عدوًّا جديدًا يمتلك أدوات واستراتيجيات مختلفة، بعيدة تمامًا عن أسلحة الدمار التقليدية، يهدف من خلالها إلى تأمين مستقبله التكنولوجي الدفاعي على حساب الملايين القابعين في مستنقعات الفقر والعوز ممّن يعانون من هشاشة الواقع وغموض المستقبل.
كاتبة سورية