المواجهة بين اليمن وأمريكا في منطقة البحر الأحمر.. لمن تكون الغلبة؟ وإلى أين سيصل شرر المعارك؟

فجر اليوم //

ربما ينظر الكثيرون إلى الصراع الدائر اليوم في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، والمواجهات التي تستعر وتشتد يوماً بعد يوم، وتتوالى فصولها وأحداثها حادثاً إثر آخر، بين القوات المسلحة اليمنية من جهة والأساطيل والبوارج الأمريكية والدول المتحالفة معها من جهة أخرى، ربما ينظرون إلى كل هذه الأحداث والوقائع بشيء من اللامبالاة أو الاستهانة والتقليل من شأنها والتهوين من مخاطرها، بل ولعلهم يعتقدون بسذاجة وغفلة أنها لا تعدو أن تكون مناوشات صغيرة محدودة، وصراعاً مؤقتاً على هامش الحرب الإجرامية التي يشنها كيان العدو الصهيوني على قطاع غزة، والمجازر الوحشية المروعة التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال والنساء والمدنيين العزل في فلسطين.
ولا تخلو مثل هذه النظرة أو الرؤية من سطحية بائسة وغفلة بلهاء وجهل أو تجاهل لمجريات الأمور وسوء تقدير لسياقات الأحداث ودوافعها الكامنة؛ فما يجري اليوم من مواجهة في البحرين الأحمر والعربي ومنطقة باب المندب بين اليمن وأمريكا، يعد بكل المقاييس حرباً حقيقية ونزاع إرادات شرساً بكل ما تعنيه الحرب من دلالات عميقة وأبعاد إستراتيجية وتداعيات خطيرة ستغير نتائجها وإفرازاتها وجه المنطقة والإقليم، وتكون لها عواقب وآثار على العالم أجمع.
فمن الجهة الأمريكية التي استقدمت أحدث ما في ترسانتها العسكرية من الأسلحة وتكنولوجيا متقدمة وأضخم أساطيلها وبوارجها الحربية، هناك إصرار وتصميم لدى الأمريكيين على فك الحصار البحري الذي فرضته القوات المسلحة اليمنية على الموانئ الإسرائيلية، ووقف الاستهداف اليمني للسفن الإسرائيلية وكل السفن المتجهة إلى دولة العدو الإسرائيلي، بغض النظر عن جنسيتها أو الدولة التي تحمل علمها أو تنتمي إليها، وردع الجيش اليمني عن استخدام هذه الورقة الاقتصادية الهامة والمؤثرة في الضغط على العدو الصهيوني وإجباره على إيقاف عدوانه ومجازره ضد أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم والمحاصر؛ على الرغم من أن هذا الاستهداف للسفن الإسرائيلية والسفن المتعاملة مع إسرائيل وهذا الحصار البحري الذي تفرضه اليمن على دولة الكيان هو إجراء مؤقت، يرتبط ويتزامن مع العدوان الصهيوني على غزة، وينتهي بانتهائه.
وهذا معناه أن أمريكا جاءت بكل هذه القوات والجحافل العسكرية من أجل توفير الحماية لتلك السفن وتمريرها إلى مرافئ العدو الإسرائيلي بالقوة القاهرة، وفرض الهيمنة والسيطرة على هذا الممر البحري بالقوة الغاشمة الغالبة، وتأمين ظهر إسرائيل من الخلف؛ لتستمر دولة الكيان العبري العنصري في مسلسل جرائمها ومجازرها اليومية، بل وعلى مدار الساعة والدقيقة، ضد أهالي وأطفال غزة، والإمعان في تجويعهم وحصارهم وقطع كل مقومات الحياة عنهم؛ حتى تحقيق كامل أهدافها وأحلامها الشيطانية في تركيع وإخضاع أبناء الشعب الفلسطيني وإذلالهم وكسر إرادتهم وتحطيم أي حلم وتوق وأمل لديهم في التحرر والانعتاق من نير الاحتلال الغاصب الجاثم على صدورهم منذ عقود، ووقف مسيرة كفاحهم ونضالهم المحق والمشروع في سبيل تحرير أرضهم والعيش بحرية وأمن وسلام واستقلال كسائر شعوب العالم الحرّة.
هذا هو الطرف الأول من طرفي الصراع، وهو الطرف الأمريكي، وهو يعيش حالة غامرة من الغرور والعنجهية والغطرسة والتجاهل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى لحظة كتابة هذا المقال، وتعتبر أمريكا نفسها القطب الأوحد التي يحق له التدخل وفرض إرادته وبسط سيطرته في أي جزء أو أي نقطة على وجه الأرض، وأنها القوة العظمى، التي لا تضاهيها ولا تدانيها أي قوة في هذا العالم.. وأنها ينبغي أن تبقى كذلك مهيمنة ومسيطرة إلى أبد الدهر..
ولدى الإدارة الأمريكية تاريخ طويل وعريق في التعسف والقتل والإجرام بكل الصور والأشكال، وسجل عريض في اضطهاد الشعوب وقهرها واستعبادها، بالإضافة إلى قدرات وإمكانات كبيرة في أساليب المكر والخداع، ودعم الإرهاب، وإثارة الشرور والفتن والاضطرابات والاختلالات والاختلافات بين الشعوب وبين أبناء الشعب الواحد وصنع المؤامرات وإيجاد البيئة الخصبة المناسبة للفوضى العارمة الشاملة أو ما يُسمّى “الفوضى الخلاقة”.
هذه هي أمريكا بشكل عام، ولا نعتقد أن القارئ والمتابع يحتاج منا لبسط الأدلة وإيراد الشواهد على ما ذكرنا؛ أما بشكل خاص، فأمريكا تحمل في نهجها السياسي ورؤيتها الأصيلة أشد أنواع الازدراء والاحتقار لكل ما هو “عربي” أو مسلم أو ما له صلة بالعرب والمسلمين.. لهذا فهي قدمت إلى منطقة البحر الأحمر بناء على هذه الرؤية من الاستهانة والاستحقار، ومن واقع الشعور والإحساس بالغرور والاستكبار والاستخفاف.
وفي الطرف المقابل من هذا الصراع الذي يحتدم شيئاً فشيئاً، توجد اليمن، وهي دولة فقيرة جدّاً، عانت كثيراً وتعاني من الانقسام والحروب والصراعات التي كان لأمريكا الدور الأبرز في إدارتها وتأجيجها وإطالة أمدها وتوسيع شقتها، ومحاولة تعميقها، وما تزال؛ كما أن اليمن بلد محاصر منذ قرابة عشر سنوات، فهو بلد مستضعف، لا يكاد يختلف وضعه كثيراً عن الوضع السائد في قطاع غزة، من حيث الحصار والاستنفار لمحاربته ومعاداته من قبل الجانب الأمريكي والدائرين في فلكه، وهو وفق الرؤية الأمريكية المتغطرسة أقل شأناً وأهون مكانة ومقاماً من أن يقارع أمريكا ويقف في وجه سياساتها وتحقيق مآربها ومطامحها. غير أن الجزء الأكبر من اليمن يقع اليوم تحت قيادة ثورية مؤمنة، مؤمنة بنفسها وبقيمها الأصيلة وبصحة منهجها وسلامة رؤيتها، وهي صادقة في توجهاتها الوطنية والقومية، وعازمة على التحرر والاستقلال من أي تأثير أو هيمنة خارجية، أمريكية أو غير أمريكية، على إرادتها وقرارها، وهي في ذلك متوكلة على الله، مستعينة به، وواثقة بنصره وتأييده وتمكينه.
ويوصف هذا الطرف اليمني -في بعض الدوائر والأوساط السياسية والإعلامية، الغربية وحتى العربية- بأنه يتصرف -في خضم هذه المواجهة مع أمريكا- بجنون وبشجاعة وبسالة تصل حد التهور والمغامرة غير المحسوبة أو غير المعروفة النتائج، وأن يده خفيفة على الزناد، وأنه لن يتردد في استخدام ما يمتلك من قدرات عسكرية في الرد على العجرفة والغطرسة الأمريكية، كما أنه يشعر بغضب شديد، ويستفزه جدّاً وصول الأساطيل والبوارج الأمريكية إلى قبالة السواحل اليمنية، خصوصاً وهو يدرك جيداً طبيعة السياسة الأمريكية ونهجها العدائي الراسخ ضد العرب والمسلمين، ووقوفها الدائم في الخندق المقابل والمضاد في كل القضايا والإشكالات ذات الصلة بمصالحهم وتطلعاتهم؛ يضاف إلى ذلك أن هذا الاشتباك اليمني الأمريكي يحصل ويتفاقم في ظل/وبسبب عنصر مثير وحسّاس جداً، لدى الجانب اليمني، وهو العدوان الهمجي الصهيوني على غزة، وهذا التدمير الوحشي غير المسبوق، وجرائم الإبادة والتطهير التي فاقت كل حدود العقل والمنطق وتجاوزت كل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، وبوقاحة وتبجح صهيوني غاية في التكبر والاستفزاز.. إذن، ها هي أمريكا تقدم على تصرفات وإجراءات حربية تثبت وتحقق بشكل بيّن لا لبس فيه ما هو موجود ومترسخ في الذهنية اليمنية من صورة أمريكا وظلمها وعدوانها ودعمها السافر لدولة الكيان الغاصب، ومشاركتها الصريحة الفاضحة في جرائم إسرائيل وعدوانها وصلفها وقبحها. كما أن هذا الحضور الأمريكي العسكري يمثل في نظر اليمنيين تحدياً صارخاً شديد الحساسية لإرادتهم الوطنية والقومية ورغبتهم الصادقة والأكيدة في نجدة إخوانهم الفلسطينيين المظلومين والمحاصرين.. وكل هذه العوامل والمؤثرات هي ما يزيد هذا التشابك والنزاع حدة وتسارعاً، وهو الصاعق والفتيل الذي سيشعل الحرب بين الطرفين ويسعر نيرانها..
وكلا الطرفين، اليمني والأمريكي، يسنّ الآن أسلحته ويحدّدها، ويترقب خصمه، ويدرس نقاط ضعفه وقوته، والثغرات التي سينفذ منها لإيجاعه والفتك به وهزيمته..
ولهذا لا نستغرب إذا صحا الناس في أحد الأيام القادمة على أحداث كبرى في منطقة البحر الأحمر تهز العالم بأسره، ولا سيما في حال استمرار العدوان والحصار والقتل ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وعدم التوصل لحل سريع يوقف هذا العدوان والإجرام..
ونحن نثق في موقف قيادتنا وفي قدرتها على الصمود والمجابهة، وصحة وسلامة الخيارات التي اتخذتها في دعم ونصرة إخواننا في غزة، وإجبار العدو الصهيوني على وقف الحرب، وإحباط المسعى الأمريكي المقيت في توفير الحماية له، وإلحاق الهزيمة بأمريكا ومنعها من التدخل -حاضراً ومستقبلاً- في قضايا أمتنا وشؤونها. وكما قال شاعرنا العظيم أبو الطيب المتنبي:
وقد أثبت اليمنيون في هذه المواجهة أنهم “أسود” و”سباع”، لا يخيفهم ولا يرهبهم في موقف الحق والعدل والحزم والعزم جلجلة المجلجلين، وإرجاف المتخاذلين، وتآمر المطبعين وغدرهم؛ فلم يبخلوا بما لديهم من إمكانات عسكرية وأسلحة ردع، ولم ولن يتثاقلوا عن النهوض بواجب النصرة لنداء المستغيثين من اليتامى والثكالى في قطاع غزة، في الوقت الذي تضن فيه الدول العربية بتقديم أي نوع من الدعم والمؤازرة الحقيقية للشعب الفلسطيني، ومنها من تمتلئ مخازنها بأنواع الأسلحة المختلفة وكثير منها قد أصابها الصدأ والعطب، ولا ندري لأي يوم تخزن وتدخر، وفي أي مواجهة ستسخدم.. وهل -مثلاً- ستشترى أطنان من شتى أنواع الأسلحة وصنوف الذخائر والقذائف بمئات المليارات وعلى مدى سنين وعقود، ثم سنراها في نهاية المطاف تصب حممها على رؤوس مواطني إحدى الدول العربية أو الدول المسلمة، كما حدث خلال العدوان السعودي-الإماراتي على اليمن في عام 2015م، والذي استمر لما يزيد عن ثمانية أعوام، ارتكبت فيه دول العدوان أبشع الجرائم وألحقت باليمن دماراً كبيراً ما تزال شواهده ماثلة إلى يومنا هذا، وقد شُنّ ذلك العدوان بمباركة ودعم وإسناد أمريكيّ وصهيوني..؟!
وقد رأينا وسمعنا على مدى الأيام والأسابيع التي خلت دعوات وتصريحات للكثير من المتحدثين الفلسطينيين الذين عبروا بمرارة عن ضعف الموقف العربي تجاه هذا العدوان الصهيوني على غزة وعلى كل أبناء الشعب الفلسطيني، ونعتقد أن كلمة “ضعف” هي كلمة دبلوماسية مهذبة، فما زال أولئك الفلسطينيون وهم بين كل هذا الدمار والخراب، يمتلكون قدراً كبيراً من الهدوء ورباطة الجأش والقدرة على استخدام المصطلحات والتعابير الدبلوماسيّة، إذ إن الواقع يشير وبكل وضوح وجلاء إلى أن الموقف العربي ومواقف عديد الدول الإسلامية، ولا سيما تلك التي تقيم علاقات مع دولة إسرائيل، ليس ضعيفاً فحسب، بل هو معدوم..

Exit mobile version