فجر اليوم //
بقلم الدكتورة : الهام سيف الدولة حمدان
ينبغي لي حين أُطل على القارئ المثقف الواعي؛ المشغول بقضايا المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه؛ والمشغول ــ أيضًا ــ بقضايا المجتمع الدولي التي تنعكس بالضرورة على مجتمعه؛ ومن خلال إيمانه بأن الكرة الأرضية تخضع لنظرية “الأواني المستطرقة” في تأثرها وتأثيرها بالأحداث الجارية من حوله؛ وإيمانه بأنها قد تحولت إلى ما يشبه إناء من النحاس؛ تتردد في جنباته أصداء أية ملامسة لجدرانه وأطرافه؛ ليهرع الجميع إلى فتح الأبواب والنوافذ؛ كي يستكشفوا: ماذا حدث !؟
وقد قفز إلى ذهني الحديث عن موضوع المقال بعدما تلقيت دعوة كريمة من أ.د/ نهلة إمام خبيرة التراث الثقافي غير المادي باليونسكو ومستشارة وزيرة الثقافة المصرية لشئون التراث لمحاضرة بالمجلس الأعلى للثقافة برعاية وزيرة الثقافة الفنانة د.نيفين الكيلاني، وأمانة أ.د.هشام عزمي، نظمها د.محمد شبانة مقرر لجنة التراث الثقافي غير المادي بالمجلس؛ بعنوان: *مفهوم الإبادة أصوله ونظرياته وأهميته المعاصرة* اتجاهات بينية من منظور جديد – الأنثروبولوجيا والتاريخ المخفي بين المؤرخين والأنثروبولوچيين ألقاها البروفيسور/ علي عبداللطيف حميدة أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية بجامعة نيو إنجلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، التي أدارتها بحنكة كبيرة د.نهلة إمام ومداخلات ثرية من الحضور.
واسمحوا لي ـ بعد تلك المقدمة الضرورية ـ أن أدلي بدلوي وأبدأ بالتفسير الواجب لمعنى “مفهوم الإبادة”؛ هذا المصطلح الذي تفتق عنه ذهن أحد علماء الاجتماع؛ ففي محاولة لتبسيطه وتفسيره ـ بتصرف ـ يقول: ” … إن الإبادة هي ظاهرة متكرّرة تُعامِل فيها جماعة بشرية جماعةً أخرى؛ مثلما تحدث جرائم القتل باستمرار في العلاقات بين الأفراد؛ وكان الشعور السائد بعد عقود على حدوث (الهولوكوست)؛ بأن يَحُولَ الرعب الذي حدث؛ من دون ارتكاب جرائم إبادة في المستقبل؛ فكانت الإبادة أمرًا غير وارد حينها؛ لكن الفترة الأخيرة من القرن العشرين شهدت جرائم إبادة عديدة حدثت في كمبوديا؛ وفي يوغسلافيا السابقة ورواندا؛ والإبادة المستمرة التي ترتكبها (الكيانات الهلامية) ــ المغروسة كالسكين في قلب العالم ــ يوميًا بحق المواطنين الأصليين في أطراف العالم …”؛ ويتابع تفسيره فيقول: “… إن هذه الجرائم جدّدت أهمية إدراكنا الضروري لبصيرة علماء الاجتماع في قراءة التاريخ البشري؛ فقد حدثت الإبادة بين الجماعات؛ وجرائم القتل بين الأفراد دائمًا، وسيستمر على الأرجح حدوثها …”!
ولا يخفى على من يحاول تفسير تلك المفاهيم التي تسود العلاقات بين مجتمعات العالم القديم والحديث؛ أن عالم السياسة ليس له قلب أو مشاعر؛ ودائمًا ـ أو غالبًا ـ يعتنق السياسيون مبادئ ونظريات لا تحفل بمن يسحقه “قطار السياسة” فوق قضبانه؛ وتكون الأهمية بتحقيق الأبعاد والأهداف التي بنى عليها السياسي.. سياسته!
حوادث الإبادة الجماعية للأرمن؛ أو مذابح الأرمن أو المحرقة الأرمنية (بالأرمنية: هي عملية القتل الجماعي المُمَنْهج، وطرد الأرمن التي حصلت في أراضي الدولة العثمانية على يد حكومة “جمعية الاتحاد والترقي”؛ خلال الحرب العالمية الأولى؛ مع أن مجازر متفرقة قد ارتكبت بحق الأرمن منذ منتصف العام 1914م، فإن المتفق عليه أن تاريخ بداية الإبادة هو 24 أبريل 1915م، وهو اليوم الذي جمعت فيه السلطات العثمانية مئات من المثقفين وأعيان الأرمن واعتقلتهم ورحلتهم من القسطنطينية (إسطنبول اليوم) إلى ولاية أنقرة؛ حيث لقي أغلبهم حتفه؛ لتطبيق سياسة “التتريك” المفروضة بالقوة؛ ولهذا أتمنى أن يكون لنا حديثٌ آخر في هذا الصدد.
وأضطر اضطرارًا ـ للأسف ـ لأذكركم بأحداث 367 ليلة سوداء في تاريخ مصرنا المحروسة؛ حين قفز إلى سدة عرش السلطة؛ كهنة “خوارج العصر” الآتين من غياهب التاريخ والسجون والمعتقلات؛ حين أرادوا التصفية العرقِية لمسيحيي مصر؛ بالهجوم على الكنائس والمعابد؛ في محاولة فاشلة لتأليب عنصري الأمة على بعضهم البعض؛ ولكن الإرادة المصرية الحقيقية بقيادتها الوطنية المخلصة؛ المؤمنة بمبدأ التسامح والعفو والتعايش السلمي؛ وبأن الله يقول: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6 الكافرون)!؛وفشلت تلك المؤامرة الدنيئة التي كادت أن تعصف بأركان المجتمع المصري؛ وبقيت مصر بعنصريها ضد غوائل الزمن وأطماع الخوارج؟
إذن.. لنا من هذا أن نعرف.. أنه لا تقتصر الإبادة ــ في رأي علماء الاجتماع ــ على القتل الجماعي وإن شملته؛ ولا ينحصر تنفيذها بمؤسسة أو سلطة حكومية؛ فتدلُّ الإبادة؛ على خطة منسقة من أنشطة مختلفة تهدف إلى تدمير المقوّمات الأساسية لحياة مجتمع ما؛ وتنطوي هذه الأنشطة على اعتبارات ثقافية وسياسية واجتماعية وقانونية وفكرية وروحية واقتصادية وحيوية وفسيولوجية ودينية ونفسية وأخلاقية! ورأي العلماء هذا ـ بتصرف ــ يفرّقُ بدقةٍ بين التغيير الثقافي والإبادة الثقافية، ويؤمنُ بأهمية الأخيرة في عمليات الإبادة؛ ليظل دائمًا وجود عدم استقرار العلاقة بين الجلاد والضحية على مر التاريخ .. فتندلع الثورات بين الحين والآخر؛ وينتصر فيها الأكثر دهاءً وخبرة من رجال السياسة المتطلعين إلى النفوذ والسلطة؛ دون مراعاة لمصالح الغالبية من الجماهير ـ كما حدث في بعض البلدان الغربية ـ الذين قاسوا من القهر والتعذيب!! ولكن ـ للأسف الشديد ـ تم الرصد من قِبل علماء الاجتماع؛ أن فترة التعذيب والقهر والتشريد والقتل للشعوب؛ غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية كارثية؛ فيتحول ضحايا الإبادة إلى مرتكبي إبادة ـ كما يلاحظ علماء الاجتماع ـ ويصبح ضحايا الأمس جلادي اليوم!